يقين حمد جنود.. بين التجربة والإبداع

يقين حمد جنود.. بين التجربة والإبداع

ناصر رمضان عبد الحميد

اللوحة: الفنانة المغربية فاطمة طهوري

إن الهدف من دراسة سيكولوجية الإبداع هي الوصول إلى دراسة الحالة النفسية للمبدع والعوامل التي وقفت وراء التجربة الشعرية حتى أصبحت متبلورة، لأن الحالة النفسية هي صلب العملية الإبداعية وهي التجربة التي ينشأ عنها شغف النص، فالناس تجمعهم صفات خاصة وخصائص مشتركة إلا فيما ندر بحكم العوامل التي ينشأ عليها الإحساس داخل المبدع.

وللتجربة مراحل وأنواع أولها

 التجربة الحياتية، فالشاعر إنسان يتأثر بمن حوله وما حوله وما يحدث في المجتمع.

– ثانيا التجربة الانفعالية، فتجربته الأولى تنعكس تلقائيا على التجربة الثانية لأنها حالة الوعي أو الواقع يقابلها عنصر من التفكيك وإعادة الترتيب أو الحذف أو الإضافة فتتداخل مع اللاوعي لتحقيق الأماني والأحلام ومن هنا يأتي الشعر. 

– ثالثا تجربة التلقي، فبين الشاعر والمتلقي درجة تتأتى من الثقافة ومن الذائقة ومن الحالة التي عليها الناس.

ولأن الإنسان ابن بيئته يتعايش مع الناس ويحيى بينهم ويتماس مع الواقع أو الطبيعة فينعكس ذلك على تجربته الحياتية فهو ليس إلها وإنما إنسان له مشاعر هذه المشاعر تتأثر بما يحدث حوله من أفراح وأتراح وما يسمى لدى علماء الأدب أو علماء النفس بالعقل العاطفي هذه الحالة التي يعيشها وينفعل معها تصبح واقعة من خلال اللاشعور أو اللاوعي وتتحول الى نص والنص لغة واللغة خيال فهناك دون أدنى شك تواشج وتداخل بين حياة الإنسان الخارجية والداخلية الباطنية فليس الإنسان بمعزل عما يدور حوله وكانوا قديما يسمونه بالشعر الرمزي أو الشعر السريالي وهو في الحقيقة ليس رمزياً ولا سريالياً. 

يخرج الشعر الذي جسدته التجربة عبر ألفاظ هذه الألفاظ نشأت من التلقي لدى الشاعر عبر كثير من الألفاظ التي اختزنها وكونت لديه القدرة على التعبير عبر قالب أختاره، وقديما قالوا: «إنما جعل الكلام من الكلام» والعملية الإبداعية كما قلت سابقا هي عملية فزيائية تحدث عبر مدخلات ومخرجات شأنها في ذلك شأن الحاسوب.. هذا مدخل لا بد منه لفهم عالم يقين حمد جنود الإبداعي.

النشأة والتأثر

 نشأت يقين في أسرة مثقفة فوالدها كتب العديد من الأعمال الإبداعية وكان عازما على إصدار سيرته الذاتية على شاكلة «سبعون» لميخائيل نعيمة غير أن الأقدار أوقفته خاتمة حياته ومسيرته في آن. فرحل ولم يطبع من أعماله ما كان يحلم به مثله مثل يقين.

تعلقت يقين بالأدب وتمنت أن تلتحق بما يثقل موهبتها، لكن ألقى بها القدر في إدارة الأعمال، ثم خطفها الزواج، من سوريا إلى لبنان إلى الإمارات إلى سوريا مرة ثانية لتشاهد أحداث ٢٠١١ وشتات الأسر والعائلات والموت والقتل والدمار، ما أجّل توثيق الإبداع في زحمة هذا الحياة ووعورة الطريق. 

في سفرها فاجأتها الأقدار برحيل والدها سندها ومعلمها وملهما الأول ليستيقظ المارد ويخرج طائر الفينيق ويصرخ بأعلى صوته:

أبي..

يتيمٌ وقالوا له في السّماءْ

ينامُ أبوكَ بصمتٍ هني..

فصاحَ بصوتٍ يشقُ الفضاءْ

وعيناه حارت بدمعٍ نبي

ولّلهِ قال بصمتِ الرجاءْ

أأكثر مني تريد أبي؟

فالأب عمود البيت وموطن الحنان للأنثى، ويقين شاعرة حقيقية تخوض بثقة واقتدار كل أنواع الشعر تكتب الشعر العمودي والتفعيلة والنثر والزجل بروح الفيلسوف ونغم الموسيقي وبهجة المحب، استمع إليها:

يسابق عمري الآتي السؤال

وياليت المنى يوما أطال

لكنت زليخة الأزمان وحدي

وأيامي ليوسفها حبال

أراني أنني صارت حياتي

على شفتيك حرفا.. لو يقال

فحينا أنت في نَفسي ونَفَسي

وأحيانا يُكَوكِبُك المحال

كنور في مرايا الصبح تأتي 

فأبصر وجهك الآني.. أنال

فكم كبرت روحي في جمال 

فإن الروح يرويها الجمال

ألامس وجهك الوضاء عشقا

وأهزم كلما وجب القتال

فكم حرضت في قلبي أنيني

بموت سكينتي.. واليتم بال

فكيف أباعد الأقدار عني 

وأنت حقيقة وأنا الخيال

تعيش حاليا يقين حمد جنود في عمان، وعمان بلد عريق ضارب في العروبة والأصالة، يعرف كل من عاش هناك أو تعامل معهم أنهم ما زالوا متمسكين بعادات العرب وأخلاقهم ولم يتأمركوا رغم التقدم والحداثة والأخذ بمعطيات العصر، ومن هنا عرفت يقين لعمان حقها وأنشدت تقول:

جبيني للعلا صَرْحٌ وَإِنِّي

عُمَانِيٌّ ويَعْلونِي مَصَرُّ  

فدتها الروحُ إن نادت عمانُ

كلمعٍ في مآقيها أَمرُّ

بحبي شاحِذٌ أسياف َ روحي

أجردها بعزمٍ لا يَخِرُّ 

وكيف العين قد تنزاحُ عنها

كَفِلْذاتٍ بِأَعْيُنِنَا تَقِرُّ.

هو التاريخ مذ كانت مجانُ

إلى مزنٍ بأجنحةٍ تسرُّ

ومهبِطُهُ نخيلٌ من نضارٍ

نبيُ الطلعِ والنعمى يدرُّ

هنا الأمجاد كالأنهار تجري

لموطنها وطوعا تستقر

رجالُ البحرِ نوخذةُ المعاني 

سَرَاةُ النُّورِ والمَرسى ضَميرُ

يطيرُ القلبُ إن ذُكرت عمان 

كأن طيرا ومن قفصٍ يفُرُّ

إن عظمة يقين كشاعرة لا تقاس بتنوع أغراضها ولا بمواكبتها للأحداث، وإنما تقاس كشاعرة بصدق إحساسها وجودة تعبيراتها، ومعانقتها للغة معانقة عاشق ومعشوق، تعرف يقين كيف تصل إلى المتلقي دون نمطية ولا تكرار:

إنّي سلامُ الصبحِ في أكْوانِهِ

إنّي سحابٌ مُنْتَشٍ حدَّ التَّعبْ

إنْ تمطر الدنيا يقيناً من دمي

في شكّهِ رَجْعٌ بهِ

بعض اليقين المُسْتَحَبْ

حبي هنا عَلّقتهُ

نجوى الحياة العابثة

نبضاً يوازيه الأربْ

قد كان في مهدي حنينا يرتدي

صمتي ويعلوه صَخَبْ

ذاك الجناح المنفرد

هل كان لي منه وحي؟

صمت السؤال المرتقب

أختالُ.. كم أختال!!

قُلْ لي: من دمي قُدَّ الذهب؟!

أم في ترابي عَجْنُ ماءٍ أو لهبْ؟!

حتى بصمتي صمتُ نَزْفٍ يُرْتَقَبْ

ينمو… وينمو مثلما

ناراً تُؤَجّجُ كلما كَثُرَ الحطبْ

إنّي أَرَانِي شائباً

طفل الزمانِ الملتحي

كلّ الذي جاءَ المدى.. يَبْلَى..

ويبقى في تباريح الهوى

قلباً مشاعاً وحدَهُ

يُلْهى به مثل اللُعَبْ

إني أراني شائبا

في جذع وجهي

عشُّ طيرٍ أو قصبْ

في حفرِ وجهي دمعُ ناي

مُسْتَرْسِلاً بينَ القَشبْ

سنَجِفُّ يوما مثلما..

صَمْغٌ زكيٌ في الخَشَبْ

يقين حمد جنود لا تزاحم أحدا من الشعراء ولا تدخل في صراعات الغيرة والتنافس، متصالحة مع نفسها، تغرد منفردة وتعزف لحنها بثقة واقتدار عبر لغة شعرية متنوعة ما بين العمودي والتفعيلة والنثر والزجل، معجمها الشعري ثري ولغتها سهلة وإيقاعها عذب تناولت في شعرها موضوعات عدة: الأسرة، الأب، الأم، الأخت، الابنة، الوطن، عمان، الحب، الوحدة، الغربة، الحلم، فلسطين.

تحية للشاعرة، وفي انتظار إصدار ديوانها.


يقين حمد جنود مواليد سورية 1981 تحمل الجنسية اللبنانية نشأت في أسرة مثقفة، خريجة تجارة قسم إدارة أعمال في سوريا عام 2001 ثم تابعت دراستها وحصلت على شهادة البكالوريس في اللغة العربية وآدابها عام 2020 ثم الماجستير عام 2021

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s