خالد جهاد
اللوحة: أحمد فؤاد نجم بريشة الفنان الفلسطيني محمود البوليس
في زمننا الحالي بات المفهوم المرتبط في الأذهان بمصطلح (الشعبي) بكل أسف سلبياً رغم أنه نابع من روح المواطن وتفاصيل حياته البسيطة البعيدة عن (الزيف والتكلف)، وهو ما بتنا نراه حتى في الطبقات الشعبية بعد أن ساهم الإعلام في ذلك إلى جانب عوامل أخرى كثيرة، فأصبحنا نرى نماذج متصنعة تقدم (اللاشيء باسم الثقافة والفن) وتستخدم عبارات مكررة عن (الناس البسيطة والمسحوقة) باعتبار أنها (خير من يمثلها) مع أنها تحاول استخدامهم كسلم للانتقال إلى (درجة اجتماعية أعلى)، عدا عن السعي إلى الشهرة والكسب السريع غير عابئة بتدمير الذوق من خلال تقديم الإسفاف والابتذال الذي يحابيه (أحياناً) بعض الوجوه المعروفة رغبة ً منها أيضاً في التقرب إلى (الجمهور البسيط)، أو استغلال نجاح بعض هذه النماذج لتؤمن لنفسها (فرصة ً ما)، فنراها تغازل (الطبقات الشعبية) باستخدام مصطلحاتها لتثبت أنها (ليست بعيدة عن الشعب)، ويقابلها في الطرف الآخر استخدام بعض العبارات لأسماء أدبية مرموقة مع (حشر) بضع كلمات أجنبية لتثبت أنها (مثقفة) رغم ما تقدمه من انحدار، وعلى الناحيتين (أحياناً) يتم استخدام بعض العبارات الدينية استكمالاً للصورة التي تحاول إيصالها للناس..
ومجرد محاولات (الإثبات) المستمرة تدل على أن كل هذا المشهد عبثي مصطنع وزائف، لذلك نذكر بنماذج حقيقية عاشت حالتها الإنسانية كما هي منذ ولادتها وحتى رحيلها، وكانت تشبه جوهر الحياة وتشبه نفسها وتشبه زمنها وبلدها وبيئتها.. لذا أتحدث عن الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم..
ما جعل الكثيرين يحبونه هو تلقائيته التي كانت نادرة بشكلٍ لا يصدق، فوجه ذات مرة نصيحةً لأحد الشعراء الشباب الذين كانوا يحاكون أسلوبه وكلمات قصائده في إحدى المسابقات الشعرية، فقال له أن الناس أحبت شعره لأنه كان منسجماً مع مظهره وسلوكه وشخصيته مما أكسبه المصداقية والاحترام، ونصح الشاعر باختيار هوية تناسبه لأن الناس لن تصدق كلماتٍ لا تنسجم مع شخصية صاحبها ومضمونه، كما أن أي نجاح يبدأ بتصديق الناس لموهبة أي شخص..
وأحمد فؤاد نجم هو ابن قرية كفر أبو نجم التابعة لمحافظة الشرقية في مصر، والذي كان ظاهرةً حقيقية غير مدعية في حالة تناغم مع ذاته ومع وطنه من حيث الهيئة والملبس والحوار الذي يجمع بين البساطة والعمق والذكاء والفطنة التي لا يصطنعها للفت الأنظار أو كسب تأييد الفقراء أو الإتجار بهمومهم، فلم تغره أو تغيره الأضواء والشهرة والإعلام ولقاءه بالعديد من مثقفي العالم العربي والعالم، وتحولت أعماله إلى صوت حال الناس في مصر والعديد من الدول العربية..
أما (الفاجومي) وهو أحد أشهر ألقابه والذي كان يلقي أشعاره جنباً إلى جنب مع الملحن والمغني الشيخ إمام الذي اقترن اسمه به حتى انفصلا بعد بضع سنوات ويقول عنه (أنا كنت عينيه وهو كان صوتي)، وكانت مرحلةً هامة من مسيرته الطويلة التي بدأت بولادته وسط أسرة ٍ تعاني من الفقر والعوز بعد وفاة والده، فالتحق باكراً بملجأ للأيتام التقى فيه المطرب الراحل عبد الحليم حافظ وخرج منه في السابعة عشرة من عمره، وعمل بعدها في العديد من المهن البسيطة لكسب قوت يومه وقام بتعليم نفسه القراءة والكتابة كما ناضل ضد الاحتلال البريطاني لمصر..
كان يرتدي الثوب المصري أو الجلابية التي لم يكن يشعر بالراحة إلا عند ارتدائها، وذكر مراراً أن البدلة لا تشبهه أو تشبه الحالة التي كونها من خلال أعماله وصنعت صورته التي تشبه بيئته التي ظل منحازاً لها حتى وفاته، فكان يتحدث باستمرار مع سكان الحي الشعبي الذي كان يعيش فيه في غرفةٍ فوق سطح إحدى البنايات، فيضحك معهم ويبكي عليهم ويتشاجر في أحيانٍ أخرى أيضاً دون أن تسكنه فكرة (النجومية)، وكان يتحدث بتلقائية حتى عن أخطائه دون خجل مما أكسبه مصداقيةً وثقة صنعت جسراً من التواصل مع الناس الذين لم يشعروا بالغربة عنه، فكان يقف في صفهم ويساندهم في همومهم في الأحداث الوطنية المصرية إلى جانب مواقفه القومية والإنسانية على امتداد العالم العربي وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فشارك في مناظرة تلفزيونية حامية مع الكاتب الراحل أنيس منصور أحد مؤيدي اتفاق كامب ديفيد وكاتب خطاب الرئيس الراحل أنور السادات في الكنيست وشن هجوما ً شديداً عليه وعلى الاتفاقية حتى وفاته، لذلك كان حاضراً بقوة كحالة شعبية هو جزءٌ مهم منها لحبه الشديد لوطنه مصر ولشعبها ولحواره الدائم معها وكأنها أمه، فكان يفخر بها وبأبنائها وترجم هذا الفخر بكتابة نصه الشهير الذي أصبح أيضاً عنواناً لبرنامج يحكي فيه ذكرياته بعنوان (يعيش أهل بلدي)..
وكان من بين الأسماء القليلة التي كانت تستخدم أشعاره بشكلٍ مستمر في الأعمال الفنية التليفزيونية والسينمائية لفرادة بصمتها وقربها الشديد من عمق الشارع المصري الذي حمله إلى مختلف الدول العربية، فكانت لسان حال الناس والمتنفس الذي يجدون فيه سلواهم لأن شعره مزيجٌ من الفكاهة المشتبكة بالأشجان، وأصبحت جواز سفره إلى قلوب ملايين العرب، وكانت كلماته وإجاباته وردود أفعاله عند سؤاله حول قضايا الحياة والمجتمع عفوية ً وصريحة مما كان يتسبب في الكثير من الحرج عند استضافته في لقاءٍ مباشر على الهواء..
توت حاوي حاوي توت.. خش اتفرج هرج فوت
زاحم لاحم عارك اضرب.. ناضل فاضل خطوة وتقرب..
والحق نفسك قبل ما يلعب.. وامسك نفسك جوه الملعب..
دانت حتضحك لما تموت..
توت حاوي حاوي توت..
توت حاوي سبع مرات.. لعبة جديدة يا حضرات..
دق الفول ويا الكرات.. هات الشطه والبهارات..
شخبط لخبط حضر طاسة وكب الزيت..
ولع طلع ريحة مريحة ف جو البيت..
ح تلقى عجينة عجيبة متينة.. لا تقول تينة ولا برتينة..
كل يا صنايعي.. كل يا فقير..
كل ما هو لسه الفول قناطير..
آه يا سلام لو عود جرجير..
تفضل تاكل لما تموت..
توت حاوي.. حاوي توت..
توت حاوي حاوي توت..
خش اتفرج هرج فوت..
قعده فكيهة حتسمع فيها..
حكاية البيضة والكتكوت..
يحكى أن ولازم يحكى..
وكان ياما كان قبل الجنة..
كان فيه بيضة وفرخة كمان..
دبحوا الفرخة طبت صارخة..
قامت البيضة طقت شارخة..
طقشت فقست فرخ فصيح..
يدن ويهلل ويصيح..
حتى ان كان على وش دبيح..
يفضل يدن لما يموت.. توت حاوي حاوي توت..
سحر مفيش دا كلام تهويش..
نفض مخك يا أبو درويش..
كل ما فيها الدنيا دي فيها..
ناس بتبكش لجل تعيش..
حابس حابس عفريت كابس..
ينزل قالع يطلع لابس..
واللي بيرقص ع المسامير..
واللي بإبرة بيفحت بير..
واللي بينفخ في المزامير..
يفضل ينفخ لما يموت..
توت حاوي حاوي توت..
قصيدة الحاوي وهي واحدة من قصائده الشهيرة التي تختصر الواقع بكل رشاقة وخفة، والتي تمتاز أيضاً بالبلاغة رغم قصر القصيدة نسبياً، خاصةً بعد أن تم تلحينها وغناؤها، وهي مثال بسيط على عبقرية أحمد فؤاد نجم وقدرته على إيصال المعنى وتغلغله في حياة الناس إلى جانب إرث ٍ كبير من الأشعار والدواوين التي ظلت بعد رحيله، وبرغم عدم اتفاق الجميع على محبته وهذا شيء طبيعي، إلا أنه حالة حقيقية طبعت مرحلة بأكملها، وصنعت مكاناً سيظل خالياً في المشهد اليومي المصري والعربي على كافة المستويات، وسجل حضوراً لافتاً لا يمكن إنكاره أو تخطيه أو تجاهل تأثيره عند توثيق الإرث الثقافي في مصر والعالم العربي في القرن الماضي وبداية القرن الحالي، كونه واحداً من الأسماء التي أعطت بريقاً للشعر بالعامية لا يقل عن ذلك الذي تتمتع به اللغة العربية الفصحى..
وقد توفي عن عمرٍ يناهز الرابعة والثمانين بعد عودته مباشرة ً من العاصمة الأردنية عمّان التي كان مدعواً إليها لإقامة أمسيته الشعرية التي كانت الأخيرة بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وكأنه كان يودع قضيةً أخلص لها بكل صدق وحملها في قلبه حتى الرمق الأخير ليعود إلى محبوبته مصر ويتم تشييع جثمانه من مسجد الحسين في القاهرة، وقد تم إقامة حفلات تأبين في مختلف مدن فلسطين التاريخية، كما يتم إحياء ذكرى وفاته سنوياً في عددٍ من الدول العربية أيضاً، فتتم قراءة نصوص ومختارات له خاصةً تلك المساندة للقضية الفلسطينية..
وقد رحل قبل استلام جائزة الأمير كلاوس الهولندية التي أعلن عن فوزه بها وهي من أرفع الجوائز في العالم، وتمنح لمن قدموا إسهاما ً في الثقافة والتطوير المجتمعي تاركاً مسيرةً ثرية مشبعة بالصدق والمحبة للناس والوطن، وبإخلاص كان ما جعله أيقونة ً خالدة في قلوب محبيه.