ما أقسى أن تكون أنت

ما أقسى أن تكون أنت

فواز خيّو

اللوحة: الفنان الإنجليزي كونروي مادوكس

سلسلة من الصدف قادت حياتي.. فمدير تحرير جريدة الثورة سليم خليفة الذي بقي، طلب نقلي إلى قسم التحرير شهرين على طاولته؛ صادفته بعد سنين من تقاعده في الشارع وأنا نازل من اتحاد الصحفيين وسلمت عليه وهممت بالمغادرة، فاستوقفني وقال لي: يا فواز أنا على حافة قبري وليس لي مصلحة معك، لكن شهادة لله أقولها: أنا متابع للصحافة السورية منذ الأربعينات، ولم يُكتب بأهمية زاويتك. شكرته بلطف وتمنيت له موفور الصحة.

اغرورقت عيناي، كلهم يُحبّونك وقد يعشقونك، لكن حين تمضي ولم تعد بحاجتهم، أو حين يغادرون كراسيهم.

*** 

في قسم التحرير انفتحت على عوالم جديدة.. ثمة من جاء إلى الصحافة برغبة وحب ليحقق ذاته، ولكن الكثيرين جاؤوا بالواسطة، والبعض جعل من وظيفته وسيلة للانتفاع، فيحمل شنطة مثل شنطة المطهّر ويدور على المؤسسات، ليسترزق من مدير أو وزير، أو يبتزّ مسؤولا حين يضع يده على ملف فساد، وهيهات تجد مسؤولا بعيدا عن الفساد. 

ما كان يُفزعني أن عدد المحررين لا يقل عن 400 ويكفي الجريدة 40، وفي الاذاعة والتلفزيون العدد 5000، وهذا العدد الهائل يأخذ من حصة العاملين الحقيقيين، والمدعوم منهم يقتنص الامتيازات والبعثات وكل شيء، وهو عالة على كل شيء. 

كان أحد رؤساء الدوائر شخصا سخيفا فارغا منبوذا من الكثيرين، وربما من أهل بيته بسبب سلوكه، وليس من إثبات أنه يحمل الشهادة الإعدادية، وتحت إمرته محررون جامعيون وأحدهم يحمل شهادة دكتوراه، ويحكي دائما أنه التقى الوزير فلان، وعضو القيادة فلان. كنت أتساءل: ماذا يحكي ويناقش مع المسؤولين حتى يعطوه هذه المكانة؟ كان لدي تصوّر أن المسؤول شخص نخبوي في كفاءته وثقافته وحتى في أخلاقه، وحين صرتُ ألتقي مع المسؤولين بحكم عملي، وجدتُ معظمهم لا يختلف عن هذا الشخص رئيس الدائرة. شيء محزن حقا. 

***

أنا مسكون بالحزن والخيبات والانكسارات، وأتفهّم أن أحدهم أو بعضهم قد يحقد عليك ويعاديك لأنك أخطأت في حقه، لكن أن تنشأ عداوات ضدك ومحاربات، فقط لأنك نجحت وصرت مقروءا ومتابعا من الناس؟ 

لم أقتنص فرصة أو امتيازا أو منفعة من أمام أحد، فلماذا الحقد؟ 

بل على العكس، كثيرا ما تم ترشيحي لبعثة، والبعض يُشغّل الواسطات ويخطفها من أمامي.

رغم الحرمان الذي عشته، فلم أتعوّد أن أحسد أحدا. 

حتى الشخص الذي يقتنص من أمامي فرصة كنت أقول: صحيح أنه سيء ولا يستحق، لكن ربما عنده زوجة طيبة وأبناء طيبون يستحقون. 

حتى حين امتلكتُ سيارة، حين أجد صديقي لديه سيارة أجمل وأحدث فإني أتمنى له الخير، وأن يأتيني مال لأشتري مثلها، لا أتمنى له أن يتدهور هو وإياها كما يتمنى الكثيرون.. لماذا لا يحبّ الناس بعضهم؟ كان ذلك من أكثر السكاكين التي بضعتني. 

كان هناك صراع بيني وبين سكرتير التحرير أحمد…. وبعض من يدور في فلكه، وجاءتني وقتها دعوات متلاحقة من قبل عميد يشغل مدير مكتب اللواء حسن خليل الذي استلم شعبة الأمن العسكري بعد العماد علي دوبا، لأشرب فنجان قهوة عنده، ولم أذهب، وحين عرفت الموضوع ذهبت، فرحّب بي العميد بكل احترام وقال لي: فلانة قريبة سيادة اللواء عندكم في الجريدة شكت له أنك تتحدث عنها بسوء وتشهير، فطلب مني أن أستوضح الموضوع. 

شرحت الصراع التافه الذي لا مبرر له، وأنهم لا يستطيعون اساءتي لا إداريا ولا وظيفيّا ففكروا بالاستفادة من قرابة فلانة مع اللواء لعلهم يؤذونني.

شكرني الرجل بكل احترام وقال لي: أنا دعوتك ولم أستدعك؟ وأعطاني رقم هاتفه الذي لم أستعمله. 

الكثيرون لا يجدون وسيلة لتصفية خلافاتهم أو اقصاء البعض سوى التقارير الكيدية للأمن والتي قد يؤدي بعضها بالشخص إلى التهلكة، وخاصة وقت الأزمات الكبرى حيث لا أحد جاهز للتدقيق، وفي فترة أزمة الأخوان كانت فرصة لكل دنيء أن يكتب بخصمه بأنه أخونجي ويرى مصيره، وإذا أراد إنهاء خصمه نهائيا فيتهمه أنه شتم الرئيس، وهنا لا يستطيع مخلوق التدخل مهما علت رتبته.. فأي شيء يستحق ان تدمر حياة شخص ومن أجل ماذا؟ ألا يخافون على أولادهم؟ 

ربما لو كان علي دوبا بدل حسن خليل بطش بي دون أن يسألني. من حسن حظي أن الرجل كان متفهما.

ذاك أمين التحرير أصبح مديرا للإذاعة سنوات، ثم أصيب بالسرطان ولزم بيته، فاتصلت به مرارا أطمئن عليه وأشد أزره، وذات اتصال قال لي: أنا ما انتهيت فواز، ومكلف حاليا بملف لجهة عليا. جهة عليا غالبا يُقصد فيها القصر.. ضربت يدي على رأسي، رجل على حافة التابوت ويريد أن يُظهر لك أنه لا زال مُهمّا عند القيادة. ما هذا الهوس الجهنمي في المواقع؟

أقفلت السماعة نادما على اتصالي، ومات ولم أذهب للعزاء.

شيراك رئيس فرنسا العظمى، وهو في الرئاسة أصدر قانونا صوتّت عليه الجمعية الوطنية بتخفيض مدة الرئاسة من 7 إلى 5 سنوات.. خسر سنتين من رئاسة فرنسا في فترته الثانية بقانون هو أصدره.. وحين خسر كارتر الانتخابات لتجديد ولايته قالت أمه: أنا سعيدة لأنه صار بوسعه قضاء وقت أفضل مع أسرته ومزرعته.

تفسيري أن معظم المسؤولين لم يأتوا عبر كفاءتهم وإنما بالمحسوبيات والطرق الملتوية والوسخة أحيانا، ولأن الموقع وسيلة ثراء ووجاهة، ولأن قيمتهم خارج الموقع صفر، فهم يستميتون وجاهزون ليقتلوا من أجل استمرارهم.. في معظم العالم العربي نفس النسخة مع الأسف.. ثمة أناس فاشلون وعاجزون عن النجاح، صغار لا يستطيعون أن يكبروا، ولا يحتملون أحدا يكبر، لأن صغرهم يتوضّح أكثر.. مع الأسف يكون ثمن النجاح أحيانا باهظا ومكلفا أكثر من ثمن الفشل، في هكذا مجتمعات وهكذا أوطان. 

حين تصالحتُ مع نفسي اختلفتُ مع المحيط.. ما أقسى أن تقرر أن تكون أنت. 

كنت أعتقد أن الجمر المتوقّد في أعماقي سيقمّر الأحلام، ويخرجها طازجة كرغيف أمي، لكن شوى لحمي، وظلّت أحلامي نيئة. 


«أبجد هوز».. الزاوية الساخرة

من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s