دعاء صابر
اللوحة: الفنان النرويجي إدوارد مونك
قالت بصوت واهن لكنه حازم: أنا لست شريرة، أنا بشر أخطئ وأصيب…كل ما في الأمر أنكم لن تملكوا من السماحة ما يجعلكم تسامحونني فيمَا أخطأت فيه، لذلك أنا لا أرجو عفوكم وإنما أرجو عفو الله.
ربت بكر على كتفها وقال بهدوء: أمي، لقد ربيتنا وحدك كل تلك السنين بعدما فارقنا أبي باكرا في رحلة الحياة؛ فكنتِ لنا خير أب وخير أم، لذلك لا ترهقي نفسك بالكلام والندم الآن، فنحن سنسامحك على أي شيء، أيضا لا تستبِقِي الشر فإن العمر مازال طويلا!
– لا، إن العمر ليس بالطويل أبدا، إنني أرى منيتي تنتظرني الآن وقد حان موعدها وستوافيني في مرقدي هذا لذلك اسمعوني!
قالت سلام وهي تغالب دموعها: دعها.. دعها تقل ما تود قوله، نحن نسمعك يا أمي.
– عندما توفي والدكم وجدت نفسي وحيدة بين جدران مصمتة لا أدري ما يُفعل بي ولا بكم، والدكم مات ولم يترك في الدنيا سواكم وإياي، حتى البيت الذي نسكنه لم يكن ملكا لأبيكم كي أتصرف فيه فأبيعه وأقبض ثمنه، ولم يكن في البيت سوى زاد ثلاثة أيام جلست فيهم أفكر، فكانت أفكاري أكثر هولا من الواقع، فكنت أرى المأساة تتصور فيها أكثر ممَا تبدو في الحاضر.. ماذا سيحدث بعد الأيام الثلاث؟ أسأتسول من الناس طعام أطفالي؟ وماذا بعد الطعام؟ من أين نكتسي؟ ومن أين تتعلمون؟ وكيف ستكون الحياة؟ كل سؤال يخطر ببالي كان يحملني شقاءً أكبر حتى صرت لا أدري، أدنيا تشقيني، أم أنني أنا من أشقي نفسي، بعدها خلصت إلى أمرٍ لم أرَ سواه ولا أرى سواه، قمت في الليل فحملتكم إلى مكان قريب من الباب، سكبت «الجاز» على الأرض في غرفة الجلوس وأشعلت عود ثقاب! بدأت الغرفة تحترق فرحت أصرخ وأولول وأنادي الناس أن أنجدوني وأطفالي!
التف كل من في القرية لإطفاء الحريق، وخرجت بكم بسرعة من البيت ولم يمسسنا سوء.. جلست على الأرض ورحت أبكي وألطم خديّ وأعبث في التراب وأنا أصيح في الناس: كيف سأصلح البيت وماذا أفعل وأنا الأرملة ومعي أطفال ثلاث! كيف سأربيهم وكل المال الذي تركه أبوهم احترق مع الأثاث الذي كان في الغرفة! يا ناس آلاف طارت في الهواء يا نااااااس!
أطفأوا الحريق ولم يكن قد ذهب بعيدا، غرفة الجلوس فقط هي التي احترقت من البيت، وراح الناس يواسونني ويشدون من أزري.. دقائق وراح كل واحد يخرج ما بجيبه، فصرخت فيهم أنني لا أريد حسنة! ماذا تفعل الحسنة وما تكون في الذي ابتلعته النيران! راح رزقي ورزق عيالي!
بتّ الباقي من الليل أعدّ الساعات، في الصباح جاءني إمام المسجد يحمل في يده مبلغا كبيرا، قال إنني أولى بهذا المال في كربتي تلك لعله يعوضني عما أحرقه لهيب النار، ثم جاء رجلان كانا يعملان في النجارة فأصلحا ما تلف ولم يتقاضيا فلسا واحدا، المال وضعته في تجارة هي التي ربتكم وجعلت لكم شأنا الآن، وها أنتم هؤلاء محامون وصيادلة وأناس محترمون، لو لم أفعل ما فعلت لكنتم الآن تفترشون الطرق وتطرقون البيوت بحثا عن كسرة خبر.
قام راغب من جانبها وصرخ بها غير مصدق: لمَ لم تطلبي مساعدة الناس بدلا من إحراق البيت؟ لمَ لم تقترضي منهم ثمن تلك التجارة التي شاركتِ بها؟
– لم يكن أحد ليقرضني ذلك المبلغ يا بني، فالناظر إلى حالي يعلم أنني لن أستطيع رد ذلك المال، وإذا قلت إنني أنوي أن أتاجر به، كانوا سيقرضونني بالربا، ولن يلتفتوا لحالي ولا للأسباب إذا ما خسرت التجارة، أما حسنتهم التي كانوا سيعطونني إياها بعد الحريق، لم تكن لتطعمكم أكثر من أسبوع، لذلك فكرت في تلك الحيلة التي قمت بها، فهم إذ علموا أن خسارتي كانت مالا كثيرا عملوا على جمع قدر أكبر من المال وهم على علم بأنهم لن يستردوه فيمَا بعد.
– مازلت أرى أنكِ لم تكوني مضطرة لخداع الناس بتلك الطريقة، إن الخير فيهم حتى أنهم أعطوك من مالهم لما رأوا بيتك الذي احترق!
– أعطوني لما رأوا النار التي أكلت البيت والمال المزعوم! لكنهم لم يمنوا عليّ بشيء عندما مات زوجي وصرت أكفل يتامى، ومن قبل لما كان أبوكم مريضا لم يزوروه مخافة أن يضطروا لإعطائنا بعض المال من جيوبهم، لقد رأوا نار المنزل لكنهم لم يروا النار التي سأكوى بها أنا وأنتم، ولم يشموا الأسى فينا، بل فقط شموا الدخان الصاعد من بيتنا، هل كنتم تعتقدون أن الناس يقولون نفسي نفسي يوم القيامة فقط؟ أخبرتكم سلفا أني لست أرجوا عفوكم، لذلك وفروا اتهاماتكم فأنا لن أدافع عن نفسي، كل ما أردته هو أن أذهب إلى قبري بلا أسرار أحملها فوق أوزاري؛ حتى لو كان جزائي أن تروني شيطانة.
وقف بكر وعينيه تزبدان كالبحر فبدا كمن فقد عقله: ماذا كان ليضرك لو لم تقولِي ما قلته؟ لماذا عكرت صفو حياتنا في لحظاتك الأخيرة؟ وهل تقولين ذلك الآن كي يشفع لك بوحك أم أنك فقط تلقين بالوزر من فوق أكتافك إلى أكتافنا نحن؟
كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة دون أن يدروا، ذلك لأن كل منهم كان ساهما في أفكاره.
قصة بديعة .. قصصك فيها موهبة عالية. أتمنى المزيد والمزيد
إعجابLiked by 1 person
العنوان كان جامعا مانعا لاحداث القصة. فهي حياة كاملة بنيت على خدعة الحريق. وفي نفس الوقت هي حياة من سراب فالدخان لاجذور له تزهر حياة جادة..
روعه
إعجابإعجاب