فارس

فارس

هيام علي الجاويش

اللوحة: الفنان الهولندي بان ستين

صديقي…

إنها وعد.. من شرفة غرفتها كانت تراقبه، تراقبه صباحا ومساء، عندما يذهب وعندما يعود، في أوقات فراغها، وتفرغ الوقت عندما لا يكون لديها متسع لذلك.. كانت تعرف عنه كل شيء، حتى ألوان أحذيته، ولا بد أنه لاحظ اهتمامها به؛ فراح يراقب مراقبتها له، وكأن اللعبة أعجبته.. كثيرة هي المرات التي اكتشفها متلبّسة بالمراقبة، وكثيرة تلك المرات التي اكتشفته متلبّساً بمراقبة المراقبة.

***

ذات مساء كانت تستمتع بغروب الشمس وبشرب القهوة، وباستراق النظرات إلى شرفتة.. رنَّ جوالها رنّة واحدة فالتقطته، رقم مجهول، نَظرت.. فإذا هو قبالتها، تبادلا النظرات، همست هذا رقمك؟ حرك رأسه بالإيجاب، تساءلت: من أين أتيت برقمي؟تبسمت، قفزت فرحة بداخلها.. لا يهم، المهم هذا هو رقمه! دخلت غرفتها.. شعرت بنشوة يشوبها الخجل، احتضنت جوالها وكأنه يحمل كنزا.. سراً.. حباً. 

في الصباح بدأ عهد جديد، من شرفته حيّاها ثم غادر حاملاً حقيبته، قالت: لو كنت أعرف في أيّ مشفى يعمل لادعيت المرض ودخلت إلى ذاك المشفى.. ومع مرور الأيام كانت تزداد مشاعرها توقدا، وتشعر بروحه قريبة من روحها.

***

في يوم صيفي كان يجالس في شرفته فتاة جميلة، في غنج ودلال تدنو وتبتعد.. تهمس ثم تبتسم.. تضحك مقهقهة غير عابئة بأحد.. تجلس على ركبتيه.. تتعلق بكتفيه.. تُسدل خصلات شعرها الطويل على وجنتيه.. تفعل ما يحلو لها فهي تعرف مكانتها في قلبه.. شعر بمراقبتها له فزاد بملاطفة الفتاة مشعلاً نار الغيرة في قلبها.. دخلت غرفتها ولم تدري كيف تطفئ ذلك اللهب! هنيهة، وجاد الغيث: لا عليك يا حبيبتي، إنها ابنة أختي.

تبدل اشتعالها سلاما، وعبوسها انفراجة سعادة، لقد أشرقت شمسها من جديد، خرجت لتلقي التحية عليه وعلى الصبية التي كانت قد انتبهت إلى وجودها. 

***

مرت الأيام على هذا المنوال، كانا يتحادثان على الجوال، يتبادلان التحية والنظرات، تقول في نفسها والسعادة تغمرها: ما أجمل الحياة إذا كنّا نحياها بجوار من نحب، لكن كيف ألقاه؟ ليته يدعوني للقائه.

في تلك السنة أتى الشتاء قاسياً، لزمت الفراش على أثر مرضٍ ألمّ بها، تحاملت على نفسها وخرجت لمراقبة الثلج والشرفة المطلة على شرفتها، ما إن لمحته حتى سقطتْ مغشيا عليها، وبرشاقة فارس كان في شرفتها 

حاملاً إياها بين ذراعيه، داخل بها إلى الغرفة ووضعها على السرير، ثم فتح النافذة وقام بعمله كطبيب، أحست بأنفاسه فتحت عينيها، يدها في يده ونظره على الساعة.أغمضت عينيها وتمنت أن يطول إغماؤها.

أعطاها ابرة في الوريد.. ثم نظر إليها قائلاً بابتسامة: الحمد لله على السلامة، أخفتيني عليك، أما الآن عليّ أن أذهب.

ترك بعض الأدوية على طاولة جانب السرير، وخرج كما دخل من الشرفة وهي تراقبه وتبتسم.

كانت في السرير عندما عاد اخوها من المدرسة مستفسرا عن عدم ذهابها إلى جامعتها؛ فروت له ما حدث معها، فردّ.. الحمد لله على السلامة، بارك الله به، لابد لنا أن نشكره، وكيف أنت الآن؟ ردت: أفضل بكثير بعد تناول الدواء، أردف: سأضطر للذهاب إلى القرية وربما أعود غداً، هل تحتاجين شيئا؟ أومأت برأسها، قالت: رافقتك السلامة.

وضعت رأسها على الوسادة وتدثرت علّها تستطيع النوم، لكن أحداث يومها عادت لتدور في رأسها كشريط سينمائي.في اليوم التالي عاد أخوها ووجدها في أحسن حال، مد يده بطاقة ورد وظرف مغلق قائلاً: 

تلك الأشياء من جارنا! ما القصة؟ تبسم ثم خرج لترتيب الأغراض التي جاء بها من القرية.

نظرت إلى الورد محاولة تفسير المعنى في كلّ وردة: الحمراء.. الصفراء.. البيضاء.. لم تقوَ على الوقوف، لعل المرض عاودها، تنبهت: الظرف..؟ دق قلبها دقات عنيفة، نظرت إليه، التقطته، اشتمته وتساءلت ماذا فيه؟

ترددت، ثم قررت فتحته: سحبت الورقة بيدين مرتجفتين، وقرأت ما جاء فيها: 130 … ثمن الدواء

و15 .. ثمن السرنك.

بعثت بالمال مع أخيها، أغلقت شرفتها، ثم مسحت رقمه عن جوالها مثلما مسح رجولته بـ ( 145 … ).

6 آراء على “فارس

  1. هيام علي الجاويش
    سعدت بالقراءة لك.. تملكين رؤية ورأيا.. تحياتي لك.

    إعجاب

  2. يا خسارة .. يا للصدمة الصلبة .. جميلة جدا .. وصادمة جدا .. انزلقت وراء قصة ناعمة وخرجت منها بخشونة مدهشة .أحسنت.

    Liked by 1 person

    1. كثيرة هي الأشياء المماثلة في حياتنا لمثل هذه الحالة
      شكرا لك

      إعجاب

  3. غالبا من نسقط مابداخلنا ونفسر احلامنا لتنناسب مع من اخترناه… لنكتشف انه الوهم وان تعجلنا للحب او تحقيق امنية ما تدفعنا للاختيار الخاطئ..
    احسنت

    إعجاب

    1. هذا مايحدث في أغلب الأحيان ولاتأتي المعرفة والنضج إلا بعد كسر قد يحدث في النفس تشوه قد لا نتمكن من إصلاحه أو نسيانه

      إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s