أيمن جبر
اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس
تكررت قصة الإنسان الذي يُضبط في حقيبة سفره ممنوعات مثل جواهر أو مخدرات، فيضبطه مفتش الجمرك ثم يَتَّهمه بالتهريب ويُزَجّ به في السجن لسنوات طويلة، ثم يخرج ولا يعرف سر ما حدث له.
وفي يوم يأتيه رسول معه مال من العصابة التي ورطته في الجريمة، يخبره أنَّ المخدرات التي حُبس بسببها ما هي إلى وسيلة لإلهاء المفتشين عن حقيبة المسافر الذي خلفه مباشرة، التي تحتوي على كمية مخدرات هائلة تم تهريبها أثناء انشغال المفتشين بإدانته، فمرَّ الكنز بسهولة ودون اهتمام وتدقيق، الأمر أشبه باصطياد حوت بِطُعم من سمكة صغيرة، وكان هو الطعم.
وسرقوا الصندوق يا محمد لكن مفتاحه معايا.
كان من مبادئ ثورة 1952؛ إقامة حياة ديمقراطية سليمة، حدث صراع بين الشباب المزهو بالنجاح السريع، فعزلوا “محمد نجيب” والمطالبين بالديمقراطية، ثم قال المنتصر: “هناك إسرائيل على حدودنا ولا رفاهية للديمقراطية، لنحرر فلسطين أولا!”
ثم سقطت القدس لتصبح العصفورة أكبر وأدهش وأوجع، فانغمسنا في دوامة “لا صوت يعلوا فوق صوت المعركة”، ثم هبطنا أعمق في دوامة لا صوت يعلوا فوق صوت توفير لقمة الخبز، ثم سكنا أخيرا في كهف صمت الذهول والخوف.
ومازلنا ونحن مدهوشون ومنتظرون تحرير فلسطين والقدس، نفقد ونفقد.. حتى لم يتبق شيء نفقده، خلعنا كل شيء وسُلبنا كل شيء، حتى أجسامنا العارية لا نستطيع بيعها؛ فهي قبيحة ومثيرة للشفقة.
لم نتعلم درس عادل إمام في مدرسة المشاغبين، “كل واحد ياخد باله من لغْلوغه”، في خِضَم انشغالنا الخطابي؛ ضُرب حولنا سور وراء سور، كما قال عادل إمام أيضا في مدرسة المشاغبين، “واحنا قاعدين”.
ولا يتبقى لنا أمل إلا بتعلم الدرس، ونقرر أن؛ لا بد أن تَغْرس وتُماِرس الأسرة الحرية في أبنائها أولا.. لا بد أن يَزْرَع ويمارِس المجتمع الحرية في أفراده أولا.. لا بد أن يَزرَع ويمارس الحكم الحرية في الشعب أولا.. لا بد أن نعيد تعريف الحرية الملتبس على الناس.. وبعدها نكون قادرين على حل قضية فلسطين.
في فيلم “سوق المتعة” ظاهرة نفسية خطيرة وفكرة شجاعة؛ فالضحية الذي تورَّط ظلما في سجن طويل؛ أدمَن كل سيئات حياة السجن وعذابه وإهاناته، أدمن الذل والحرمان والخضوع.
وحين توفرت له الحياة الحقيقية برفاهيتها ووسائلها الكاملة؛ لم يستطع التمتع بها أو تذوقها!، أصبح دمه وطبعه ومزاجه ذليلا، مهما تبدل حاله فلن يرضى بديلا عن نفسية وحياة العبيد، جمدت حواسه على تلك المتع المشوهة ولن ترقى أبدا لما فوقها.
كثير من مجتمعنا لا يختلف عن هذا الضحية، فالرحلة الطويلة التي قطعها بين أسوارها مرغما أحدثت به نفس الأثر، يخاف التغيير ولا يتخيل تذوقه، ولا يتخيل أن يتحمل نتائجه، يخاف الحرية فيتحجج بأنها ستؤدي للعُري والتفلت والفوضى، يخاف المسؤولية ويلقيها على السلطة ثم يتأرجح بين حمْد السلطة ولعنها، يخاف الموت كما يخاف الحياة، يخاف الظلم ولا يعي أنه يسبح فيه ويغمره.
عندما يقوم الإنسان بحمية غذائية يتعب في أول الأمر، وتصرخ معدته وتتشنج وتُشعره بفراغ عميق بداخلها، ثم تنكمش وتصبح غير قابلة إلا لأقل الطعام، ثم يناله لذة من فراغها. نحن وصلنا لمرحلة التلذذ بالعذاب والإهانة والعجز، وكلما قام أحدنا بالصراخ ليوقظنا صفعناه على قفاه وأرجعناه بجوارنا خوفا من الإفاقة واليقظة المُرَّة. ولا حل إلا بفهم الحيلة وبدء رحلة الحرية والكرامة والمعرفة.