قارة اسمها الخريف

قارة اسمها الخريف

خالد جهاد

اللوحة: الفنان الأسترالي جراهام جيركين

كلانا ينظر إلى الآخر في صمت، يفارقه دون ضجيج، يحزم حقائبه ووجعه ليلوذ بالرحيل، لم يتوقف للسؤال لحظةً عن شعورنا ببعضنا، فشيءٌ ما قد انكسر بيننا، انطفأ بهدوءٍ شديد بعد احتضاره طويلاً دون أن يحاول أحدنا إنقاذه، لترتجف الأصابع المطمئنة، وتزوغ النظرات الواثقة، فتعري سكينتنا وتلبسها رداء الخوف، ويتلاشى معها الشعور ككحلٍ محته أمطار الدموع..

شيءٌ من البرد تسرب إلى قلبي فارتعش كقنديلٍ باغتته الريح، ذكرته بطفولةٍ مرت بخجل.. وشابت على عجل كساعةٍ رمليةٍ تحاكي الأيام، باتت ذكراها ملاذي الذي أخافه كما آنس به في خلوتي، جزءًا من أشيائي الصغيرة التي تصنع عالمي وتتسرب منه دون إرادتي، ترقب الليل لتختبئ في فراشه.. تحادثه بحرية ٍ على سرير ٍ متهالك، وسط أجواءٍ رماديةٍ لا تبددها الشمس، فأجمع أوراقي وصوري ورسائلي القديمة، أفتح صندوق أشرطتي، أشغلها واحداً تلو الآخر، أستمع عبرها إلى ما تبقى من الكلمات التي تمنيت أن أسمعها ذات يومٍ من أحبتي، فآخذ وقتي مستغرقاً في عودتي إلى زمنٍ لم تكن السرعة أهم إنجازاته، أحلل نبرة الصوت، أفتش فيها عن موسيقى اللهفة والشوق، عن مدنٍ لا تعرف الاغتراب، أدفن رأسي في شوارعها، أزرع عينيّ في تربتها وأعلق أذنيّ فوق شرفاتها، دون أن أعطيها قلبي، لترشدني إلى الحقيقة، لأعرف إلى أين ترحل الساعات بعد انقضائها ؟ وكيف تبتلع اللغات كلماتها الحانية؟ ولماذا خبأت الطبيعة فصولها في جيب معطفها الكبير تاركةً للروح الخريف..

هذا الفصل الذي يدور في المخيلة كأغنيةٍ حزينةٍ، تلح علينا وتلتصق بنا، تقرأنا وتختصرنا، تسافر موغلةً في الجرح كلما اختنق صوتنا، تنعكس حيرةً على الملامح وخيبةً في الأعماق، تحرقنا وتأخذ معها أوهامنا الجميلة التي صنعت سعادتنا الزائفة، تتحول إلى طيفٍ عابرٍ يتراقص على أوتار القلوب، يقف في المنتصف بين العقل والجنون، يذكر بموت الأشجار واقفةً بمنتهى الهدوء.. دون أن تخبر أحداً.. حتى الطيور التي تنام على أغصانها، لتتركها تحلم بالربيع في أحضانها، تفتش عن حبيبٍ وإن لم يكن لها، ترى بأعينها سقوط الحب كالأوراق، وغياب الأمان في ذروة العناق، ككل من غاب بلا عذرٍ وتركنا ننزف بعد الفراق..

فكيف يستجدى بقاءه ؟، لمن يشكو القلب غربته؟ كيف يطلب محبته؟ كيف لا يقتله الألم وهو يحارب غيرته؟ كيف لا ينطفئ نجمه في سماءٍ تخنقه؟ تنسى وجوده أو تتناسى وكلاهما سيفٌ يذبحه، لا تسله لماذا تحمل بل اسأل عما سيخسره.. إن رحل وترك فتات العاطفة وصدق ما يشعره.. بأنه لا ينتمي لحبيبٍ لا يعرف كيف يقدّره، لا يؤثر فيه الغياب، لا يوقظ غفلته العتاب، بأيدينا فتحنا الباب وبأيدينا سنغلقه، لا حب يزهر في الغربة، هاتِ الربيع الذي جاءت به، أهديتكِ وطناً في قلبي فنفيتني إلى حضن الخريف.. قارةً لا يطأها سوى أصحاب النفوس المتعبة، لا فائدة من الأسئلة فالريح التهمت الأجوبة..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s