دعاء صابر
اللوحة: الفنان المصري ناجي شاكر
في مكان ما على سطح هذا الكوكب، مكان محدد لن أخبرك أين يقع، تتحول القيود الداخلية فيه إلى قيود حقيقية تقيد صاحبها، بل إن القيود التي يفرضها عليك أحدهم تتحول أيضا إلى أحبال حقيقية ملفوفة حولك، يمسك زمامها الشخص الذي فرضها عليك؛ لذلك أنت تمشي الآن في الشارع.
قد يبدو لك الأمر هكذا، لكن الحقيقة أنك لا تمشي إلا وأنت مُسيَّر ومُسيِّر، أي أنك مربوط بأحبال يمسكها أفراد عديدون، وأنت تمسك بأحبال مربوطة بأشخاص آخرين، الطريف أن الأحبال التي يمسكونك بها، هي نفس الأحبال التي تقيد حركتهم هم، كما أن الأحبال التي تمسكها أنت تقيد حركتك.. في دروس الفيزياء والرياضيات، أي جسم تقع عليه قوتان متساويتان في اتجاهين متضادين تكون محصلتهما صفر، لا شيء على الإطلاق، تلك هي الفيزياء والرياضيات، لكن ليست الحياة.
كان الأمر سيكون أقل مأساوية لو أن تلك الأحبال تجعل كل شيء ساكن في مكانه، عندها لن يكون لأحد فضل على أحد ويسود اللاشيء؛ لكن الواقع هو أن كل شيء يتحرك فيما عداكم، إذا نظرت حولك سترى شيئا عجيبا، كل شيء يشيخ ويموت ثم يأتي مكانه شيء جديد لم يكن موجودا، إذا نظرت إلى أعلى ستجد السماء تتبدل كل حين بسماء أخرى، النباتات والحيوانات تتطور وتأتي بشكل جديد وصفات متناسبة أكثر مع الشكل الجديد للحياة.. كأنك وُهبت ملكة أن تنظر إلى حبل الزمان ممتدا؛ فترى كل ما كان وكل ما يكون وسيكون بتسلسل الأفلام والروايات، وإذا بعينيك تعودان إلى مشهدك وأنت مقيد، وجميع من حولك مقيدون، تبدون من بعيد كشبكة الصيد، بينما من قريب تبدون حمقى!
تتلمس وجهك فتجد التجاعيد تتشعب فيه، تتلفت حولك فتجد الكل يشيخ، ثم فجأة يختفي أحد الأشخاص الذين كانوا يمسكون بحبل من الأحبال التي تجذبك، تصاب بالصدمة للحظة، وتمر عليك فكرة تتحرك بسرعة الضوء لكنك لا تدركها؛ لأن مشهدا آخر يباغتك، لقد ظهر شخص آخر ليمسك بالحبل، إنه شاب!
من المألوف أنك لا تنظر لمن يمسكون بالأحبال المتصلة بك، أنت تعلم أنهم سيكونون أباك أو أمك أو عمك أو خالتك، وبعض الأقارب من وجه بعيد، والجيران، والبواب، والناس الذين في الشارع وفي غير الشارع، وربما بعض قطط صناديق القمامة، لذلك أنت لا تبذل عناء النظر إليهم وتفنيدهم، لكن الشاب الذي ظهر فجأة محل العجوز الذي مات يلفت نظرك، تلتفت له مرة أخرى، تنظر إلى ملامحه بدقة، تحاول سبر أغوار ذلك الوجه، إنه مألوف!
في لحظة ربما تأتي وربما لا، ستعلم أن ذاك الشاب هو أنت في الزمن الذي كان يمسكك فيه العجوز الذي مات، وفي وقت ما ربما قبل أن توافيك المنية مباشرة، ستنظر خلفك فتجد أن كل الأشخاص الذين كانوا يمسكون بأحبالك انتهوا، وحل محلهم نسخ منك من أزمنة مختلفة، تحديدا الأزمنة التي ظهرت فيها تلك الأحبال
في تلك اللحظة قد تكون أنت أنت، وقد لا تكون أنت، فإذا كنت مازلت أنت؛ فستبقي على كل شيء كما هو، وستموت ويموت معك كل نسخك تلك ليقف مكانك نسخة من الشخص الذي كنت تقيده بحبل، أما إذا لم تكن أنت هو أنت، فستلقي بالأحبال التي تمسكها، عندها فقط ستجد أن كل الأحبال التي كانت تمسكك لم تكن تجذبك للخلف قط، كانت فقط ملتفة حولك، كما أن الأحبال التي كنت تمسكها حينما كنت أنت أنت، لم تكن تجذب الأشخاص الذين أمامك، كانت فقط تحيط بهم، تلك اللحظة التي أصفها لك الآن، هي اللحظة التي تأتي كل مئة عام، اللحظة التي يظهر فيها شخص لا يمسك حبلا ولا يمسكه حبل.
احسنت تفسيرا للحياة…
إعجابLiked by 1 person
خيال جميل وصورة محترفة .. الموهبة واضحة . لا تتوقفي عن الإنصات لهذا الإلهام النادر.
إعجابLiked by 1 person