صلاح حسن رشيد
اللوحة: الفنان الفلسطيني خالد شاهين
ما أسرع الأيام في كرّها؛ وزقُّومها! وما أحلك الواقع في قسوته وسطوته؛ حينما تغيب الكراوين الصادحة؛ والبلابل الماتعة؛ عن الحدائق والفراديس والمحاريب!
فها هي ذي ستة أعوام قد مرّت؛ على وفاة العلامة الدكتور الطاهر أحمد مكي (١٩٢٤-2017) عميد الأدب المقارن والدراسات الأندلسية في العالم العربي، فماتزال الدموع سخينة؛ والعيون ذاهلة؛ والأفئدة ملتاعة ملتاعة!
فقد قُبِضَ؛ برحيل الطاهر مكي؛ نصف العلم الأندلسي؛ فغامت أدواح الأدب؛ وبهتت دولة الكتابة الفنية، والبلاغة العصرية، والشِّيم المصطفوية؛ فأجدب النقد، وانمحل الفكر، وانزوى التثاقف؛ فصدئ العقل..
ويا أياميَ المعسولة؛ رجِّعى أياديه على البرية بالهنا؛ ويا ذكريات السعدِ؛ أشعلي سراجي؛ بـ”الطاهر” الوضّاء والسنا؛ ويا غربان الخسفِ؛ عَدِمتكِ خدعةً؛ فأعطارُ شيخي؛ تفوح بالرائقِ الجَنَى!
ألا قاتلَ الله الفقد؛ وقاموسه! وأبقى الله لنا الوداد بعلم “الطاهر” العاطر الشذا! فالطاهر مكي.. تاريخٌ وواقع وحيواتٌ لا حياة واحدة!
ذهب الجسم، وبقيت الروح والريحان ترفرف حول طُلّابها ومريديها وطالبيها في أعلى الجِنان؛ وتزور الأرض؛ لسقيا الناس وإصلاحهم.
تعطيهم أرواحُه الطاهرات.. نداوةَ الفكر، وطزاجة الطرح، وصدق الإخلاص، ومهارة الدرس، وعبقرية الذوق، وأصالة الكلمة، وأمانة المشروع، وقيمة الإنسان، ورسالة الخير والحق والجمال.
الطاهر مكي.. مؤلفات ومواقف، محاضرات وذكريات، مقالات وآراء، دروس وأخلاق، عطاء وزيادة..
الطاهر مكي.. الناقد الإنسان، والإنسان الناقد، فقد علا عن الصغار، وارتكن للضمائر، واتحد مع العظام والعظام، في عصر امتلأ بالقتام والصغائر!
فمن تراث الطاهر مكي المجهول.. مقالاته الزاهيات الزاكيات، التي لاقت صدى طيباً لدى الأوساط الثقافية والأكاديمية والسياسية في العالم العربي، والتي نشرها في جريدة “الأهرام” الغرّاء؛ منذ الستينيات؛ والتي لفتت الأنظار إليه، وإلى قلمه، وإلى جديده، وإلى أسلوبه؛ فمتى يعكف عليها باحثٌ جاد؛ فيحييها من جديد؛ عرفانًا بصاحبها، وما فيها من علم وأدب ونقد.
الطاهر مكي.. قاموس الحياة النابض بالحب والمودة، مع مَن عرف؛ ومَن لم يعرف!
الطاهر مكي.. ترجمان الأشواق إلى دولة الأخلاق! وساحر الأساليب في الإنشاء والتعريب.
الطاهر مكي.. سيد الترجمة، ورائد الجهابذة، وعملاق التحقيق والتدقيق!
الطاهر مكي.. الذي ملأ الدنيا والجامعة علمًا وأدبًا وفضلًا؛ وهو شيخ الزاهدين فى الشهرة والصيت!
بقيت نقطة مهمة جدا؛ يجب أن تلتفت إليها وزارة الثقافة المصرية، وهي مخطوطات الطاهر مكي التي لم تر النور بعد، وهي نفائس المكتوب، وروائع المقروء، وعظائم النقود، بسليقة الموهوب، وروعة المثقف، وإدهاش القدير!
فمتى تقوم الوزارة بطبعها؛ ضمن سلاسل هيئة الكتاب.. هي ومشروع الطاهر مكي، الذي دشَّنه طوال ستة عقود من الإنجاز والإبهار!
فالطاهر مكي؛ رصيد ضخم؛ من التراث والتثاقف؛ وسجل زاهٍ من العبقرية والموسوعية؛ بين آداب العرب، وآداب الغرب؛ بمنهجية الفنان؛ ومصداقية الناقد؛ وجمالية الأسلوب؛ وجديد المطروح؛ وديمومة المشروع؛ وحيويته؛ وفرادته، وواقعيته! حكى لي الطاهر مكي عن الرجال، والأفكار؛ والكبار؛ والصغار؛ عن حيوية مصر وفتوتها أبد الدهر؛ عن الحضارات والتاريخ؛ عن الشعر والفن؛ عن النقد والذائقة؛ عن الكتابة وجدواها؛ عن الرسم والموسيقى، عن الفلسفة وأفذاذها، عن المدرسة المصرية في الدراسات الأندلسية، ورأيه في شيوخها؛ عن سيرته الذاتية، وسيرة مصر والعرب في القرن العشرين، وما قبله، وما بعده!
ألا يا “طاهرَ الأدواحِ”.. دُونكَ أشجاني!
فقد دهاني؛ من فقدكم؛ ما قد دهاني!