خالد جهاد
اللوحة: الفنانة الإسبانية ريميديوس فارو
تبدأ الحياة بذلك الصراع المحتدم بين العاطفة والمنطق، تتحول خطواتنا لعناقٍ بين المغرب والمشرق، ويبدو المستحيل مجرد كلمة، نتسلل داخل عباءتها فنرى بانبهار ما يشبه (صندوق الدنيا) وكأننا كالصغار منذ مائة عام، ويشبه السعي في دروبها ركض الإنسان في مكانه دون تقدمٍ أو تقهقر، فنغار سراً من الآخرين ونجد من يغار منا أيضاً في السر، ويختبئ الجميع خلف أقنعة الكلمات مثل حفلةٍ تنكرية لم يعلن عنها أحد، لكن الحضور كان أكثر من المتوقع على اختلاف فئات البشر، فتختلط اللغات واللهجات والنغمات صاعدةً عبر السلم الموسيقي إلى الطابق الأخير من الكلمات لتستريح على أريكة الصمت.. أعظم مدارس الإحساس والموسيقى، والتي لا تبلغ منتهاها إلا بقلبٍ منفتح ٍ على الواقع وأعينٍ مغمضةٍ عن الصغائر وآذانٍ مصغيةٍ لإيقاع الروح فينساب عبر شقوقها، ويذوب في تصدعاتها، ويتزين بتجاعيدها، وينعجن بأشجانها، فينصهر فيها ويتوحد معها، وينتقل من صخب الأكذوبة إلى همس الحقيقة، ويرى الأمور ببساطة ٍ أكثر وقدريةٍ أكبر، ويكف عن الأسئلة التي لطالما أرهقته، ويتوقف عن انتقاد الآخرين، ويستوعب أن تلك التفاصيل المزعجة هي الأقل كارثيةً فيما نعيشه، فينظر لها بسلام ويفهم أن الكل وحيد بشكل ٍ أو بآخر، ولكن هذا النوع من الوحدة لا يرتبط بالدموع والشكوى قدر ارتباطه بالتكيف والتسليم مع وجه الحياة العاري بلا رتوشٍ أو مساحيق، والذي يشبه تقلباتها كالبكاء في مكان ٍ ضحكت فيه من أعماقك، أو رؤية حديقة ٍ استرحت في ظلالها وهي تهدم بالجرافات، أو قراءة اعلانٍ عن بيع مبنى عشت فيه فصولاً من حياتك في المزاد العلني، تلك اللحظات اللامفهومة والتي تبدو متدليةً كقلادةٍ من عنق الأيام مثل لحنٍ حزين، كتلك الوجوه التي نراها معلقةً في محلات التصوير على اختلافها بين رجال ٍ ونساءٍ وأطفالٍ وشيوخ، بين ضحكٍ واندهاشٍ وجمودٍ وبؤسٍ وافتعالٍ وملل، تلك النفوس التي تملك الكثير من الأحلام المؤجلة والأحاديث المكتومة، والمشاعر المبتورة أمام المرآة، كتلك المرأة التي تزين شفتيها بالأحمر لتمحوه بعد انتهائها بثوانٍ هازئةً من شكلها، وكذلك الرجل الذي يتأمل وجهه ووزنه وشعره ثم يواريهم في خجل، كأولئك الذين أرادوا تغيير العالم وأصبحوا كتلةً من الهدوء، تتابع التلفاز بصمت.. دون أي ردة فعل، بعد يوم عملٍ طويل..
تعيش الغروب لحظةً بلحظة وتراقب الساعة بطرف عينها ثابتةً عند السابعة مساءا ً، تستحضر ماضيها في عتمة حاضرها وخوفها من الغد.. فلا هي بالساهرة ولا هي بالنائمة، لكنها اعتادت أنصاف الحلول والأحلام والأفكار والأحاسيس لتظل على قيد الحياة متماسكة المظهر وان كانت تتداعى من الداخل..