بين التملق والوطنية

بين التملق والوطنية

فواز خيّو

اللوحة لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل

خضتُ الكثير من المعارك داخل الجريدة ضد هؤلاء المتسلقين، سيّما أنهم يلتفّون حول كل رئيس تحرير يأتي، ليحافظوا على أمكنتهم ومكاسبهم، والجريدة نسخة عن كل مؤسسات البلد. وكانت معاركي هذه مضافة إلى معاركي الخارجية مع مسؤولين ومتنفّذين ممن تناولتهم في زاويتي. 

في بيئة عمل مشوّشة وموبوءة، مصيبة لمن لا يتقن زيارات الولاء الصباحية للمدراء والتملّق لهم والدّس على زملائه، والأسوأ حين لا تجيد الجعجعة في المناسبات الوطنية أو تتقن تلقّي الأوامر، فأنت لن تتسلم رئاسة مكتب صغير. 

أنا كصديقي ونستون تشرشل أرى أن الدولة تقوم على عامودين أساسيين الصحافة والقضاء. الصحافة تلقي الضوء على أية قضية وتفصفصها بالتحليل، مما يتيح للمسؤولين اتخاذ القرار الصحيح، وخاصة في القضايا الكبرى. 

 الصحافة تكشف الحقائق للناس، والأخطاء والفساد، والسلطة التنفيذية تتحرك بناء على ذلك، والقضاء ينفذ القوانين ويحقّ الحق، ويمنع الناس من أن تأكل بعضها. 

مهمّة الصحافة أولا هي أن تنقل خطاب الناس للحكومة، كي تعالج مشاكلهم وقضاياهم، وتنقل رؤية الحكومة وبرامجها وتوجهاتها للناس. لكن عندنا كانت الأولوية هي نقل خطاب الحكومة للناس، فأصبحت الصحف الثلاث كنشرات يومية شبه متطابقة، باستثناء صفحات المنوعات والصفحة الثقافية، وانتشرت نكتة: 

دخل شخص إلى مكتبة وقال للبائع اعطني جريدة الثورة وتشرين والبعث، قال له البائع: لم يبق لديّ سوى البعث، فقال له: اعطني 3 بعث. 

ومرة في ساعة متأخرة من الليل أدخل أحد المحررين نعوة لرئيس التحرير ليلحقها بالعدد للطبع، فكتب رئيس التحرير على النعوة عبارة (إذا كان هناك محل). وفي الصباح بسبب غباء المُنضّد نزلت النعوة على الشكل التالي: أسكنه الله فسيح جنانه إذا كان هناك محل. 

في سوريا نشأنا كصحفيين بدون آباء، بسبب إلغاء الصحافة الخاصة والمستقلة في فترة الوحدة بين سوريا ومصر بين عامي 1958 و 1961، عاد شيء منها بعد الانفصال، ولكن منذ مجيء البعث للسلطة عام 1963 ألغيت تماما. 

لهذا لم يحدث تواصل بيننا وبين الآباء المؤسسين للصحافة السورية منذ أيام الحكم العثماني والفرنسي، لنعمل معهم ولنستفيد من خبراتهم، على عكس زملائنا اللبنانيين والمصريين. 

والمحررون القدامى في الجريدة ممن يفترض أنهم يمتلكون الخبرة فهم ليسوا أكثر من موظفين، تحولتْ عقولهم لآلية ببغاوية لأنهم يكررون نفس العمل وبنفس المفردات يوميا، وهذا حمّلنا العبء الأكبر لأن ليس هناك من يمكن أن تستفيد منه ومن تجربته وإرشاداته، وبالتأكيد ستحصل منهم على مشورة تذهب بك في الاتجاه الخاطئ.، عليك أن تبني نفسك بنفسك.

مع تشرشل

حين كانت الطائرات الهتلرية تدكّ وتنعث لندن وغيرها من المدن الانكليزية؛ قالوا لتشرشل: لقد خربت البلد. سألهم: هل الصحافة والقضاء بخير؟ قالو: نعم. قال لهم: لا تخافوا، بريطانيا بخير. 

تشرشل زعيم دولة استعمارية، لكن أحترم إخلاصه لبلده وفلسفته في الحياة وظرافته. 

من أقواله: إن بريطانية مستعدة للتخلي عن كل مستعمراتها، لكنها ليست مستعدة للتخلي عن شكسبير.

نهندس المدن ثم تهندسنا، (أي سلطة المكان، المكان الذي تتعاطى معه يفرض عليك تقاليده، ويهندس تصرفاتك بموجبها). 

لا أصدّق من استطلاعات الرأي إلا التي زوّرتُها بنفسي. 

هو أول من رفع شارة النصر، إشارة الإصبعين حرف ف من فيكتوري.

وهو أول من قال: لا أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين في السياسة، ثمة مصالح.

قال مرة لسائقه المسرع: إمش على مهلك لأني مستعجل، أي إذا أسرع فقد لا يصل. 

وحين اتهمه أحد الصحفيين بالغباء سجنه، فقالوا له: أتسجنه من أجل كلمة؟ قال لهم: لم أسجنه بسبب كلمة، بل لأنه أفشى سرّا من أسرار الدولة. 

حين كان في ضيافة روزفلت خرج من الحمام شبه عاري وفوجئ بروزفلت يطلع بوجهه فقال له: ليس لدى حكومة جلالة الملكة ما تخفيه عن إدارة الولايات المتحدة. 

أحترمه لأنه واقعي، فحين دعوه لتسلم القيادة في وجه الجحيم النازي المتساقط على لندن وغيرها مطلع الحرب العالمية الثانية؛ لم يبع البريطانيين الشعارات والوعود الكاذبة، خطب فيهم وقال: لن أعدكم سوى بالدم والدموع، ولكننا سنقاتل، قاتل وقاد بريطانية مع الحلفاء إلى النصر على النازية والفاشية. 


ما أقسى أن تكون أنت

من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s