الكيس الشفاف

الكيس الشفاف

دعاء صابر

اللوحة: الفنان الإسباني ويلي ليبلاتينيه

في زمن ما، ولقرارات ما، ارتأت الدولة أنه من الحكمة اتخاذها، خاصة بعد انتشار حوادث نتجت عن متفجرات تحمل في أكياس لا يرى أحد ما بها؛ انتهى الأمر بالناس وهم محظور عليهم استخدام الأكياس المعتمة، وأصبح الأمر مقصورا على الأكياس الشفافة، فإذا أمسكت الشرطة بأحد يحمل كيسا معتما ألقت القبض عليه فورا وأفرغت محتويات كيسه في الأرض على مرأى ومسمع من الجميع، بل إن الناس أنفسهم أصبحوا ينكلون بمن يمشي بكيس معتم فيستوقفونه ليسألوه عما يحمل، لذلك صار الكل يمشي بأكياس شفافة يرى ما بداخلها بسهولة، فهنالك من يمشي ومعه بقالته التي تستطيع رؤيتها وتفنيدها جيدا، ومنهم من يحمل كيسا به ملابس جديدة قام بشرائها توا فما عاد يحتاج لارتدائها فقد رآها الحي كله بالفعل. 

في البدء كان الناس يستحون من النظر في أكياس بعضهم البعض، ولكن مع الوقت أصبحت عادة مقبولة إلى حد بعيد حتى أنه ظهرت عادة التباهي بمحتويات الكيس ومدى شفافيته، فكلما كان الكيس أكثر شفافية ومحتوياته أكثر غلوا كان يجدر بحامله أن يكون أكثر فخرا، لذلك لم يجد رقيقو الحال عزاءً من استخدام الأكياس الشفافة التي تحمل بعض النقوش لتجعل من الصعب رؤية محتويات الكيس بدون تمحيص كبير وذلك لتفادي أن يرى الناس ما هم به من شحٍّ وعدم استطاعة على مجاراة الحياة الاجتماعية الشفافة تماما والمحبة للتفاخر.

أثناء انتشار التفاخر الطبقي بمحتويات الكيس، ظهرت مشكلة اضطروا من أجلها أن يصنعوا استثناءً، كان الاستثناء للفتيات اللاتي يضطررن لشراء الفوط الصحية، كان ضمير المجتمع الشرقي صحوا وعينيه كعيني الصقر، لذا صدر قرار بأن الفوط الصحية يجب أن توضع في كيس معتم حفاظا على حياء المرأة الشرقية، وتم وضع بند في الدستور لضمان ذلك الحق وسمي بحق «حفظ الكرامة» فأصبح المارون كلهم إذا مروا بجانب فتاة تحمل كيسا معتما علموا فورا أن ما به هو فوطة صحية، فأصبح هناك أكياس شفافة تتيح لك رؤية ما يحمله كل شخص، وكيس شبه شفاف تعلم أن حامله يداري رقة حاله، وكيس معتم وحيد بالطبع أنت تعرف محتواه…وهم أيضا يعرفون!

في يوم ما نفدت الأكياس المعتمة لدى إحدى الصيدليات فاضطرت بنت مسكينة لشراء فوطة صحية في كيس شفاف، خرجت وركبت إحدى وسائل المواصلات العامة، وشاءت الأقدار أن يركب بجانبها شاب فقير معدم بعدما استأذن السائق أنه لا يحمل نقودا، فتسامح معه السائق، كان الشاب يرتدي ملابس رثة لم تدارِ نحافته رغم اتساعها وثقلها كونها ملابس شتوية لا تتناسب مع حرارة الجو، وكان يحمل كيسين شفافين؛ كيس به ملابس مبقعة مرقعة ويظهر فيها لباس داخلي واحد تراه بسهولة وقد اصفرّ لونه، وكيس به بعض كسرات خبز متعفنة تصيدها من مقلب قمامة، وعلبة عصير يبدو أن من أعطاه إياها ارتأى أن مازال بها شفطة تستحق حملها. 

ركب ذاك الشاب بجانب الفتاة، الشاب يحمل كيسين شفافين يبديان رقة حاله ومأساة حياته، والفتاة تحمل كيسا شفافا به ما به، فإذا بنظرات استنكار تتصوب من كل مكان في السيارة نحو الفتاة، قام الكل يداري ما بكيس الفتاة بكل عزة نفس وإباء وشهامة لا متناهية، وتصاعدت أصوات الناس وهم يلومون الفتاة على رضائها بأن تشتري تلك السلعة بغير أن تحملها في كيس معتم، الكل تساءل أين ذهب حياؤها وكبرياؤها في ذلك الموقف المهين، وعلا صوت النخوة متمثلا في سيدة خمسينية تجلس في زاوية ما وهي توبخ الفتاة وتقول لها: هل ترضين أن يرى أحد أنكِ تحملين فوطة صحية؟ 

وانهمك الجميع يحاول أن يضع ما بيد الفتاة في أكثر من كيس؛ لمحاولة إخفاء ما فيه وهم يذكرونها بحق «حفظ الكرامة» الذي ينص عليه الدستور!

رأي واحد على “الكيس الشفاف

  1. هل هو عيب في الثقافة ام محاولة للتشويش على الضمائر أننا لانعي معنى الشرف او الكرامة الا فيما يخص النساء ونعمي عيوننا عن فقير تم تجاهله وجائع يفتش في صندوق للقمامة بخثا عن بقايا شبع منها الأغنياء..
    عزيزتي انت ذات خيال كاتب متفرد

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s