وجع أكبر من الغفران

وجع أكبر من الغفران

خالد جهاد

اللوحة: الفنان الكولومبي جوهان باريوس

برغم أن نهايات الحب تقريباً متشابهة سعيدةً كانت أم حزينة إلا أن طرقه وعرة متشابكة، متفرعة ومليئةٌ بالمتاهات التي تقود أصحابها كثيراً إلى واقع ٍ لم يخطر ببالهم فليست حكاياته بتلك التي قرأناها في الكثير من الروايات أو سمعناها في الأشعار والأغنيات وليست محصورةً في ثنائية الحب والفراق، بل تبدو أحياناً شديدة السمية وأشبه بغرام الأفاعي التي تخنق ضحيتها قبل التهامها ويحتاج الإفلات منها إلى معجزةٍ كي لا تترك في قلب طرفيها ما يشبه العاهة المستديمة أو الوشم الذي لا يمكن محوه..

ولأن الكثيرين يستسهلون الكلمات ويرددون العبارات بشكل ٍ آليّ، بات اسم الحب أو الكره مكرراً على كل شفةٍ ولسان ربما لتشوش الأفكار واختلاط المشاعر، وسطحية التجارب، والخوف من تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، والاعتراف بالواقع، فالاعتراف يتطلب استبصاراً وصدقاً وجرأة تشبه من سيفتح باباً مغلقاً في منزل ٍ مهجور وهو يعرف أنه لن يقدر على إغلاقه مجدداً مهما كان خلفه من مفاجآت ولكن هذه الجرأة أحياناً هي المطلوبة كخطوةٍ أولى قد تصنع التغيير رغم كونه مؤلماً على الأغلب..

وقد تبدأ قصص الحب ببداياتٍ بريئة وأحاسيس عذبة نتساءل عن أيامنا قبلها، لكنها قد تدفعنا للسؤال لاحقاً كيف استطعنا أن نعيشها أو نحتملها؟ فقسوة الشعور لا تأتي من شيءٍ لا أمل فيه بقدر إتيانها من شيءٍ حاولنا مراراً التغاضي لأجله، ورؤية الأمل فيه حتى وصلنا إلى نقطة اللا عودة، بعد وصولنا إلى نقطة الصفر كثيراً لكننا كنا نبدأ دوماً من جديد..

فالكذب عدو الحب، وادعاؤه هو بمثابة قتلٍ عمد مع سبق الإصرار، والوهم يعمينا كثيراً لكن لحظة ارتداد البصر رغم أهميتها تظل الأشد إيلاماً..

حينها.. تمر قصتنا أمامنا كشريطٍ سريع بأدق تفاصيلها وهفواتها وأرق أحاسيسها وأعظم خيباتها، فكم من مرةٍ حاول أحدنا تبسيط متطلباته وتخفيض سقف توقعاته والتنازل عن الكثير من أحلامه حتى خسرها جميعاً كي لا يخسر من أحب، ولم يلحظ أنه خسر ذاته باسم التضحية، وكم من نسيانٍ وكتمانٍ وحرمانٍ كان يتغلغل كخنجرٍ داخل الروح بهدوء طبقةً تلو الطبقة فيما كانت الابتسامة مرسومةً بإتقان كتلك التي ترسمها المساحيق مخفيةً ملامح المهرج الحقيقية، وكانت الدماء والمشاعر اللا مرئية تتسرب من الجرح الذي أحدثته الطعنات دون أثرٍ أو تأوهاتٍ أو تعبيرات ٍترتسم على ملامحنا خوفاً من شعور المحبوب بالذنب فيما لا يشعر بوجودنا من الأساس، لنفهم أن القليل من اللحظات النادرة التي جمعتنا كانت مجرد مجاملاتٍ نابعة من الإحساس بالواجب لا المحبة، فلا يدري المعشوق بهمنا أو نجاحنا أو خوفنا أو تعبنا لأنه ببساطة غير مدركٍ لوجودنا، وليقينه أننا لن نرحل، موجودون كالأريكة التي يستريح عليها قليلاً بعد يومٍ حافل ثم يتركها أياً كانت وجهته..

ليعود لاحقاً بعد أن نختار الرحيل بصمت، بين انكارٍ واستغراب ٍ ومحاولات إقناع ٍ لنفسه بأننا سنعود حتماً.. لكننا لا نعود.. لأننا ببساطة فهمنا، والفهم يعني ألا نحارب في معركة ٍ خاسرةٍ في كل الأحوال..

وعند التلاقي بعد الغياب سيسأل لم رحلنا.. وستكون الإجابة هي الصمت، بعد احتراق الروح كالشمعة حتى نهاية طرفها دون أن يبقى منها شيء قادرٌ على الإنارة في بحر ٍ من الدموع، مع ابتسامةٍ تستخف بسؤالٍ إجابته معروفة ٌ سلفاً كنكتةٍ سمجة، لا تضحك قلباً تحول من التوهج إلى الانطفاء الكامل كجثةٍ لازالت تنبض بأعجوبة..

فالنفس التي ركعت في محراب الغرام ودخلت سجنه بكامل رغبتها، ورشت السجان بسخاء كي لا يفك قيدها مستمتعةً بدور سجينة الحب، تهرب اليوم منه بعد أن أطبق على أنفاسها، وتستأجر مساحة ً ضيقةً لبكاءٍ واسعٍ بحرقةٍ تحيل الغابات الكثيفة إلى رماد.. ولكن.. دون صوت..

اليوم وبعد أن تخدر القلب من شدة الألم، ونزع خنجر الوهم من مكانه، تأكدنا أنه لم يعد هناك نزيف، تماماً كشعورنا بعد التأكد من توقف زخات الأمطار وزخات الرصاص في ميادين القتال، فلا خوف من وحدة، ولا حزن على خيانة، ولا بكاء من فرط العجز، ولا انتظار لأحد..

إنه التبلد بعد ذبول أجمل ما فينا وكأننا نتعاطى المهدئات لتستمر الحياة، نراقب عقارب الساعة والأصوات الخافتة، نستحم في الثالثة صباحاً، ونشرب القهوة لننام بعمق، وتستيقظ ذكرياتٌ ٌحولت صدورنا إلى ما يشبه المقاعد الفارغة في الحدائق العامة، يجلس فيها العابرون لبرهة ثم يختفون، معتقدين أنها ستظل فارغة ً بانتظارهم، دون التفكير في مرارة أن يكون قلبك مثل نزلٍ قديم في شارع ٍ فرعي مظلم لا يمر به البشر إلا لليلة، ورغم محاولات الصفح والمكابرة والنسيان، الا أن هناك غصةً لا تزول فقتل الروح كقتل الابن وجع أكبر من الغفران..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s