ليليان محمود
اللوحة: الفنانة الكويتية هاجر عبد الرحمن
نصوص لشباب واعدين في مقتبل الكتابة
اليوم هو اليوم المنتظر لكاتب حالم قاوم كثيرًا من أجل الوصول إليه، اليوم هو يوم حفل توقيع روايته الأولى بمعرض الكتاب الدولي، اليوم يومه الذي يصدح فيه لسانه بما بقي عالقًا في قلبه المحزون، ذلك اليوم سيجلس فيه أمام الحشود ليخبرهم عن الأمر الذي أوحى له بكتابة هذه الرواية، والذي ألهمه إبداع كلمات مؤلمة وملهمة كتلك:
أيها الحضور الكرام أقف أمامكم اليوم – أنا سعود السالم – وقد حققت حلمًا كان بالنسبة لي صعب المنال، حققته بدعم خفي ممن كنت أتمنى أن يقف معي اليوم فهو أولى بالتكريم، ذلك العزيز الذي تشبثت ذكراه بأيامي؛ فآلمتني وألهمتني، فاسمحوا لي أن أعرفكم إليه، ذلك الغائب الحاضر دوما في حياتي.
وُلدتُ وأخي سعد بعد خمسين محاولة مضنية للحصول على طفل واحد على الأقل يُبهج الحياة وينوِّرها، وكنا كما وصفنا أبي باللذَين اقتبسا جمال القمر مناصفة، فلم يختلف واحد منا عن الآخر شكلًا، فكلانا حصل على وجه دائري بعينين خضراوين كخضرة الزيتون، ووجنتين مكتنزتين، وأنف لين مُدوَّر، وابتسامة عريضة تشق المُحيا فلا تزيد جمالنا إلا جمالًا.
لم يفاضل أبوينا بيننا في المحبة أبدا، فقد مارس أبي أبوته الحانية في أجمل صورها، فلم يقبل رأسي يومًا دون أخي، ولم يداعب أخي قط فنساني، وإن طلبت منه شيئًا اشتراه لكلينا حتى لو لم يحتاجه أخي، وصحح لنا تلاوة الآيات القرآنية مئات المرات دون ملل أو كلل، وأما عن أمي فلديها أمومة سخية تكفينا، إنها تعرف أدق التفاصيل حولنا أكثر من معرفتنا بها، لدرجة أنها تستطيع التفرقة بيننا لحظيًّا من خلال الشامة الصغرى التي بالكاد تُرى بالعين المجردة، فأنا شامتي موجودة فوق حاجبي الأيمن، وأما أخي فشامته موجودة تحت حاجبه الأيمن، ولطالما كانت ملمة بما نرغب، فطهت لي حساء الطماطم في الشتاء ولأخي حساء الخضار، وظلت تمسك بأيدينا عند الذهاب إلى المدرسة حتى وصلنا إلى المرحلة الإعدادية، وأحضرت لي المصاصة الزرقاء ولأخي المصاصة الخضراء، ولم تكُف يومًا عن تعليمنا طريقة الأكل والكتابة باليمين، في الواقع أرى أن أبي وأمي شكلّا أنجع مؤسسة تربوية مبنية على أواصر التفاهم والمعاشرة بالمعروف، وقدما لنا كل شيء، وما كان قطفنا منهما إلا قطفًا حسنًا جميلًا يانعًا أثمرت فيه التربية الحسنة بما يُرضي البارئ مدبر النفوس والأكوان، أما عن علاقتي بأخي، فمن أين عليّ أن أبدأ؟ كيف أنظم حروفي وكلماتي؟ وإن أسعفتني اللغة فهل سيسعفني قلبي؟ كنت وسعد كحبة الفول التي انشطرت إلي نصفين متساويين، نعم لا أنكر أننا تطابقنا في المظهر، ولكننا اختلفنا في الأوصاف والميول والأهواء، ومع ذلك جمعنا سرير واحد عندما طرقنا باب الحياة، وتلفاز واحد يعرض هزيم الرعد وأبناء الغد، ومائدة واحدة عند الفطور والسحور والغذاء والعشاء، واستاد واحد عند مشاهدة مباريات نادي القادسية، و مركز واحد لتحفيظ القرآن، ورباط واحد لم يضعف يومًا، لم يتعرض للوهن، إنه أقوى شيء جمعنا، إنه رباط الأخوة، بذلك الرباط تشبثت بعضد أخي في السراء والضراء، لدرجة أننا عندما تقاتلنا بالسيوف البلاستيكية وطرحني سيف سعد أرضًا، جرى نحوي بلا هوادة وقال لي بنبرة قلقة: سعود أخبرني هل أنت بخير؟ أرجوك لا تغضب مني لم أقصد ذلك. أدركت حينها أن أخي كان يخاف علي من أصغر الأمور وأبسطها، بيد أننا لم نتجاوز الستة أعوام حينها، وعندما كانت تفتك بي نوبات السكر كان هو أول من يهرع إلي بإبرة الأنسولين والطعام، لا يبرح المكان حتى يطمئن قلبه أنني بخير، إن لم تخني الذاكرة لا يخطر على بالي لحظة واحدة تركني فيها سعد وحيدًا أصارع شطآن الحياة، عندما كنت أفرغ من الحديث والشكوى عما ساءني في ذلك اليوم، كان أخي يربت على كتفي بلمسة ناعمة ويذكرني بحسن عاقبة الصبر واحتساب الأجر، يذكرني أنني ضيف في هذه الدنيا فلا حاجة لإرهاق نفسي بما لا تطيقه ولا داعي لإرهاق أعصابي على أمور زائلة سوف تفنى لا محالة، وإن رآني منهكًا ومتعبًا عانقني وقال لي: سيمضي كل شيء وكأنه لم يكن، فلتصمد، إن الله يراك ويعرف كل ما يجول بخلدك، فتأكد أن نهاية هذا التعب جبر لا نظير له، وخير لا مثيل له، عوض الله إن أتى فلن يخيب آمالك بل سيليق بها.
كان سعد مرآتي الساطعة اللامعة التي أرى بها نسخة أنقى من نفسي، نفسي التي تكاثفت عليها السحب السوداء، سحب من الهدوء الممزوج بالكآبة، فإن حلَّ الليل الأظلم فيّ أتى سعدً ليبدد عتمته بنوره، أتى لكي ينسج خيوطًا من الكلام الذي يريح النفس ويجبر الخاطر، فإن أوشكنا على إنهاء الحديث عن أمر؛ يفتح أخي باب أمر جديد خشية أن يستولي علي الملل، وبين تلك المحادثات التي قد تستمر إلى أطراف الليل، كنت أتأمل تلك الثنايا الصغيرة بين كلماته، أراقب هيئته المتزنة، ووقفته المرتجلة، وكلامه الموزون، وكأنه صيغ كي يحرك كل إحساس في قلبي، الموسيقى الهادئة في شخصه، حضوره الذي لا يخفت أمام عيني، أما أنا فكنت ذلك الصامت ذو الحضور البارد الباهت، كلماتي قليلة تكاد تختفي، أكتفي بالإنصات بالرغم من الخطابات التي تضج بداخلي، والرغبة الجامحة في لعب دور جاد في أية محادثة تتخلل أيامنا؛ لأنني أخاف أن يهزمني بحججه ذات التفنيدات المدروسة، وأخاف أن تعلو أصوات فكره في الأرجاء فيُربط لساني دون القدرة على الرد عليه، نعم بعض الأحيان كان الخوف يساورني، الخوف الذي اختلط بالغيرة غير الملحوظة منذ الصغر.
منذ سنوات تفوق علي سعد في أشياء كثيرة، تمكن من حفظ الحروف الهجائية أوَّلًا، واستطاع قراءة القصص القصيرة بطلاقة قبلي، ونال استحسان الأساتذة أكثر مني، وفاز علي مرات عديدة في مباريات الشطرنج الودية، ونال الميدالية الذهبية في نهائي مباريات كرة السلة الدولية، أما أنا فنلت نظيرتها الفضية، لقد سبقني بأمتار عديدة في ذلك السباق الوهمي الذي أقحمت نفسي فيه، واستطاع أن يخرج من محيط الدائرة التي رسمتها في خيالي، أما أنا فبقيت ضائعًا هائمًا فيها، كنت أرى أن أفكاري وأحلامي وتطلعاتي ما هي إلا مجرد سفاسف أمام تلك الخاصة بأخي، لقد غزت جعبته الآمال المبنية على سعي لا يتوقف، وأحلام متوقدة بشعلة النصر آخر المطاف، جهد جهيد وعمل دؤوب، كنت أجده مستغرقًا في قراءاته العلمية بين كتب الفيزيائي يوسف البناي وكتب مركز الكويت للتقدم العلمي، وكأنه يخطط لتحقيق إنجاز عظيم يحطم سقف التوقعات، أحيانًا كان الليل والنهار يتعاقبان وما زال أخي معتكفًا في غرفته كي تقصر المسافة بينه وبين القمر، أو بالأحرى كي يصبح عالمًا في أقرب وقت ممكن، أما أنا فالأمر الوحيد الذي تقت له أن أصبح كاتبًا روائيًّا، تُبهر نصوصه عقول القراء، وتستجيب لأفكاره النيِّرة دور النشر، وتتهافت على مقابلته المحطات الإذاعية والتلفزيونية، ويجتمع معجبيه على طاولة التوقيع في معرض الكتاب الدولي، كلها أحلام لذيذة باغتتني منذ أن أثنى على موضوعي الإنشائي معلم اللغة العربية في الحصة الدراسية، قال: لقد فاجأتني يا سعود بهذا المستوى الرائع، أقدر كلماتك الثمينة التي كُتبت بكل عناية واهتمام بالرغم من كونه تكليفًا عاديًّا، آمل منك أن تسعى جاهدًا لتنمية هذه الموهبة، ولتتذكر جيِّدًا، الكتابة هي أعظم ترجمان لأفكارك، فأحسن ما تكتبه وتخطه أناملك.. ومنذ ذلك الحين استقرت كلماته الطيبة في نفسي ولم أسمح لها أن تكون أمرًا عابرًا، بل قررت أن أٌكِّرس وقتي وجهدي منذ المرحلة الثانوية لتحقيق ذلك الحلم المرتقب، فبت أمر على المكتبات مساء كل يوم فلا أغادرها، أتنقل بين فهارس الكتب وفصول الروايات وأبيات الدواوين، أستمتع باستنشاق عبير الورق، والتمعن في قراءة النصوص التي تملأ الصفحات، فتارة أتعجب من الحبكات التي تزين الأحداث الروائية، وتارة أقف حائرًا أمام بيت شعري فيه من قوة الفصاحة وحلو البيان ما يجعل الإنسان يقف احترامًا لعقلية الشاعر الفذَّة، وما كان ذلك إلا سببًا أدعى كي أواصل المضي قدمًا نحو تحقيق أحلامي، ومتنفًّسًا يجعلني أتفوق على أخي ويصرف اهتمامي عن مراقبتي له.
أتذكر جيِّدًا الدفاتر الكثيرة الذي ابتعتها من المكتبة، وكم الأقلام التي بريتها حتى أصبح طولها مثل طول الخنصر، أتذكر جميع الأوراق التي حملت نصوصًا لم ترق لي وكان مآلها سلة المهملات، ولا يختلف الوضع كثيرًا مع المسودات الركيكة التي حلت مكان الشواغر الفارغة على الرف، لطالما خلتها مجرد ترهات يحيكها عقلي وإن عرضتها على دار نشر فحتمًا ستتعرض للرفض القطعي، كنت أقف أمام المرآة وأسأل نفسي: متى سيأتي اليوم الذي تستجمع فيه قواك، وتثبت للعيان أن الكتابة لم تقتصر يومًا على البالغين والجامعيين؟ بل وحتى اليافعين يستحقون مكانًا لامعًا يتألقون فيه، ومتى سوف تطلع أسرتك على تلك الموهبة المكنونة؟ ومتى ستحظى بمقعد مستقل في معرض الكتاب؟ كثرة التردد والتوجُّس جعلتني دائمًا أقف في الصفوف الخلفية، أتأخر أكثر فأكثر، وأغدو بعيدًا عن حلمي شيئًا فشيئًا، لم أتمكن يومًا من عرض أحد النصوص التي كتبتها على أسرتي، كلما فكرت بذلك انتابني الخوف من ردود أفعالهم، والانتقادات التي قد توجه لما كتبته، وكأنني أريد أن أحظى بكمال مطلق لا تشوبه شائبة في عالم الكتابة والتأليف وأنا لم أنشر كتابي الأول بعد، يا للعجب! آخر شخص وددت أن يطلع على ما أكتب كان هو أول من يقرأ شيئًا من مستودع أفكاري التي تحولت فيما بعد إلى كلمات تُقرأ قد تعجب البعض وقد تزعج الآخر، لقد فعلها خلسة دون أن أعلم، نادى علي وطلب مني بلطف كعادته أن أفك له التشابك العصيب بين أسلاك حاسوبه، ولبيت ذلك الطلب، وبينما كنت مشغولًا بفعل ذلك، مضى خلفي وأخذ يتصفح بعض الأوراق، ولم يمر الوقت طويلًا حتى عم الهدوء أرجاء المكان، ولم أعد أسمع صخب تقليب الصفحات، فالتفت حولي لأجده يقرأ أول رواية أكتبها: أنا وأخي، لقد فات الأوان، لقد تمكن من قراءة كل شيء، وعرف كل شيء، أدرك أنها رواية لا تختلف كثيرًا عما كنت أكتبه في دفتر يومياتي، الدفتر الذي أثبت لي حقيقة نفسي فيما بعد، لم أغير شيئًا سوى أسماء الشخصيات، الأحداث والعواطف نفسها، الحب الممزوج بالكراهية، الثقة الممزوجة بالشك، الفخر المحقون بالغيرة، والكثير مما أخفيته طيلة السنوات الماضية من كبت وضغينة بلا أي سبب مبرر، في الواقع ما كنت لأغضب لو قرأ شيئًا آخرًا مما كتبته، ولكن شاء القدر أن تقع المسودة الوحيدة التي تمنيت ألا يقرأها طيلة عمري بين يديه، سألت نفسي ألف مرة لمَ لم أخفها؟ كنت أقول دائمًا: سعد يحترم خصوصيتي إلى حد كبير من المستحيل أن يعبث بأغراضي، ولكن خابت كل ظنوني، رمقني سعد بنظرات يشوبها الحزن وكل ما تحمله الخيبة، عيناه كانتا حمراوين ومُترعتين بسيول من الدمع الحار، دمع الغصة والحسرة، أمسك كتفي وقال لي بنبرة مُتجهِّمة: أكنت تكتب كل هذا ولم تخبرني من قبل؟ أكنت تحلم أن تصبح كاتبًا؟ ولماذا لم تخبرني بما تهواه؟ وقبل أن ينتهي مما قاله قاطعته بغضب شديد وقلت له: لأن هذا الأمر يخصني وحدي ولا حاجة لمعرفة عامة الناس بما أصنع، ثم من الذي سمح لك بلمس أشيائي الخاصة؟ فقال: هل أنا من عامة الناس؟ أنسيت ما عقدناه بالخناصر منذ عشر سنوات؟ تعاهدنا أن نشارك بعضنا البعض كل ما يجري في فضاء نفوسنا، تعاهدنا ألا نخفي عن بعضنا البعض شيئًا من الحزن والوَجَل، والآن أراك فرطت بذلك العهد بل وحنثت به منذ عام كامل، لقد ألقيت كل شيء وراء ظهرك وكأنه لم يكن، والأسوأ من كل هذا أنك تشعر بالغيرة مني ومما أفعله، أنت لم تخن الميثاق الذي بيننا وحسب بل وغدرت بي! ابتسمت ابتسامة ساخرة وقلت: كان من الأفضل لكلينا ألا تعرف؛ منذ نعومة أظافرنا وأنت أفضل مني لقد سبقتني بخطوة في كل ما قمنا به سويًّا، لطالما كان الإطراء والمديح على أبسط الأشياء من نصيبك، ولا أقصد بالقول أبي وأمي، بل المحيط من الأصدقاء والمعلمين وكل غريب مر بأيامنا، كأنني ظل لك أو لا وجود لي، كل شيء كان يتلاشى بمجرد أن تأتي، حتى وإن حاولت أن أنطق بأي جملة مفيدة، فكأنها لم تخرج من فمي لأن كل الترقب من أجل سماع بعض من كلماتك يصب في نهرك، أما أنا فما عساي أن أفعل سوى محاولة الاندماج في ذلك المجتمع ذي الأفق المسدود، والذي لا أنتمي إليه لا بأفكاري ولا بخيالاتي؟ لذلك لم أقبل بالتنازل عن تلك الفرصة الذهبية والنادرة لأنطلق في عالمي الخاص الذي لا يخضع لآراء الناس ولا وجود لك فيه، والبطل الوحيد الذي يمرح فيه هو أنا فقط، دون أن تتدخل وتفسد تلك البطولة بأسلوبك المنمق، وجدت نفسي سعيدًا في ذلك العالم وكأنه قصر مترف وأنا ملكه، لقد انطلقت بكل ما أوتيت من قوة لكي أزخرف الأوراق بكلماتي وما ينبض به عقلي، لا ألمح أي أحد يعكر صفو مزاجي وأنا أتمشى بين السطور بقلمي، أنفس عن كل ما يزعجني ويلم بروحي، وأصرخ فيها بأعلى صوت ولكن بإحساسي الصامت دون أن يلتفت أحد، ناهيك عن الساعات التي كنت أقضيها خارج البيت في المكتبة، غدت دقائق سريعة كالريح، فهل من متعة مستساغة أكثر من هذه المتعة؟ ألن تكون سعيدًا عندما ترى أخاك قد وجد نفسه الهائمة أخيرًا؟ ألن تشعر بالراحة عندما أكف عن مراقبتك وحسدك على أبسط الأشياء؟ ليس من المفترض أن تعرف كل شيء وتفقه كل شيء، هنالك الكثير من الأمور يجب أن تدفن في النفس دون أن يدري بأمرها أحد، حتى لا تنهش القلب وتؤلمه.
قال: ولكنني وثقت بك أشد الثقة، جعلتك تعرف كل شيء عني من طموح وآمال وأحلام، شكوت لك همومي وما يضر نفسي، وفي النهاية اتضح لي أنك لا تثق بي، قل لي ما الذي سيسعدني عندما أعرف أن أخي يُكِن لي كل العداوة والبغضاء على أمور مجهرية، أمور لم يلاحظها إلا هو، أنت ما عدت تعتبرني أخًا بل أصبحت تعتبرني منافسًا يلاحقك كي ينال منك ويفوز عليك، لدرجة أن تلك المنافسة الشريفة تحولت في نظرك إلى حرب باردة وصامتة، لقد حِكت الكثير من الأمور الكاذبة في خيالك، خيالك الذي تفتخر به وتعتبره عالمًا من الفرحة المنشودة ، قاطعته وقلت: لم يكن خيالًا بل واقعًا لا مجال لإنكاره، ثم علا صوت أخي أكثر فقال: بل خيالًا مُنفِّرًا، ومضى الحال على هذا المنوال لمدة ساعة كاملة، عندما احتدم النقاش فتح أبي الباب بقوة قائلا: ما الذي تفعلانه؟ أكنتما على وشك ضرب بعضكما؟ قلت: حسنًا لن أجادل كثيرًا، ولكن تذكر جيِّدًا يا سعد أنك قد أثبت صحة ما كتبته في تلك الأوراق بما قُلتَه قبل قليل، تذكر جيدًا أن فضولك أفسد كل شيء، كل شيء دون استثناء، وبعدها خرجت من المنزل مسرعًا حتى لا أسمع موجة أخرى من التوبيخ ولأستنشق بعضًا من الهواء النقي، وأشاور نفسي فيما ألقيته من عبارات، سرحت بين أفكاري، وتهت فيها فلم أعبأ بوجهتي حتى وصلت إلى الشارع الرئيسي، فتحول هدوء الحي إلى ضجة كبرى من أصوات المركبات التي تتحرك عجلاتها ذهابًا وإيابًا، وعندما تيقظ ذهني لما يحدث حولي وأنني تجاوزت الطريق عندما كانت الإشارة خضراء فات الأوان على العودة، ولا أتذكر سوى أن مركبة كبيرة حمراء مسرعة صوبت أنوارها نحو وجهي فتشوشت رؤيتي من شدة سطوعها وما عدت أبصر شيئًا، حتى سمعت صوتًا عاليًا ينادي علي، التفت وإذ بيد صاحب هذا الصوت تجذبني، ولكن سرعة المركبة فاقت سرعة تلك اليد فسقطنا على الأرض، دقيقة بعد دقيقة أصبح نفسي أثقل ورؤيتي ضبابية فلم ألمح وجه الذي أنقذني، كل ما استطعت رؤيته نظارة ملطخة بالدماء، وشيئًا فشيئًا حتى انطبقت أجفاني وغبت عن الوعي.
بعد ذلك الحادث المروع رقدت على سرير المشفى في غيبوبة مقيدا بالأنابيب الموصلة على طول جسدي، زارتني أصوات شتى منها المتفجع كصوت أمي، ومنها الذي يدعو كأبي بعدما تقطعت به السبل فلا صراخه ينفع بشيء ولا ماله يقدر على إفاقتي، وأصوات أخرى تذهب وتمضي للاطمئنان من أقرباء وجيران، استطاعت أذناي تمييز جميع تلك الأصوات إلا صوت أخي، تساءلت كثيرًا في نفسي أيعقل أنه لم يحضر ليطمئن علي؟ أيعقل أنه لم يرافقني في سيارة الإسعاف؟ وكيف ذلك وقد كان أول الحاضرين في أي موقف يعصف بي وفي كل لحظة حلوة يغبط بها قلبي؟ أيعقل أنه ما زال غاضبًا مني؟
في اليوم الثامن من مكوثي على سرير العناية المركزة، شعرت بغرابة كبيرة، لقد سكنت الأصوات من حولي، لم يزرني أحد ذلك اليوم، ولا حتى أبي وأمي، يا ترى أين ذهبوا جميعًا؟ ولماذا تركوني في تلك الحالة المزرية وأنا أجاهد كثيرًا لكسر قيد تلك الأجهزة، والعودة لحياتي الحقيقية مرة أخرى، أهي غيبوبة أم إشارة بموت قريب؟
مضى اليوم الثامن وحل صبح اليوم التاسع، ولكن ذلك اليوم اختلف عن باقي الأيام، لقد تضاعف عدد الذين زاروني، لا أدري هل الزيارة كانت لي أم لوالدَي، الكثير منهم ردد: إنا لله وإن إليه راجعون، ماذا؟ من الذي مات؟
بدأ قلبي يخفق، ازدادت دقاته بشكل مفاجئ، واجتمع الأطباء من حولي، وبدأوا بتفحص جسدي، في ذات الوقت منحني الله فرصة ثانية للعيش، نعم لقد استيقظت أخيرًا من تلك الغيبوبة لأسألهم بأعلى صوت: أين سعد؟ أين أخي؟ أصبح الكل يحدق في وجهي بعيون حزينة وبصمت يكفكف ملامحهم، ثم قالت لي أمي بصوت متهدج: أتدري من الذي لحق بك سرًّا لكي يحميك ويستسمحك؟ إنه سعد، إنه أخوك سعد.
نفس العبارات تكررت على لساني لساعات متواصلة: أين أخي؟ أعيدوا لي أخي، كيف لم أره؟ كيف لم أعرف أن النظارة الملطخة بالدماء كانت خاصته؟ يا أمي قولي إنها مجرد مزحة، أرجوكم أخبروني بالحقيقة، أين أخي سعد؟
أمسكت أمي رأسي الذي يكاد كل وريد فيه أن ينفجر وقالت: والله يا بني إن قدر الله لنافذ على عباده عاجلا غير آجل، وإن الجنة لدار النعيم، اللهم اكتبه عندك من شهدائك الصالحين الأوابين.
في تلك البرهة مر شريط ذكرياتي مع أخي، عندما كنا نبني قلاع الرمال على اتساع الشاطئ، وعندما كانت الثغور تبتسم عند مشاهدة حلويات العيد، وعندما دافع عني أمام من تنمر علي من طلاب المرحلة الابتدائية، وعندما شاركني طعامه في الاستراحة المدرسية لأنني نسيت أن أجلب طعامي معي، شاركني في كل شيء وفي المقابل لم أشاركه سوى الصمت، فلما قررت أن أتفوه بكلام، خرج كالسم الذي يُعيي، السهم الذي يصيب فيؤلم ويُدمي لقد هشمت كل قطعة في قلبه لأُرضي الأنا التي بداخلي؛ وفي المقابل تناسى كل شيء؛ لأننا من دم واحد ويجمعنا أب واحد؛ لأنه في يوم من الأيام وعدني أن يحميني ويواسيني بالرغم من كونه يكبرني بخمس دقائق؛ لأنه أثبت لي كيف تكون الأخوة، وكيف يكون عضدًا لي.
منذ أن عدت إلى المنزل وأنا أشعر أن كل شيء لونه رمادي قاتم، حتى ملامح أبي وأمي كانت كفيلة بقول الكثير والكثير، أما أنا فقد تركت أمتعتي ونزعت إبرة المغذي من يدي وركضت نحو غرفتنا، لقد كنت أبدو في حالة يرثى لها من التعب والإعياء ومع ذلك لم أهتم ولم أكترث، كل ما تاقت إليه نفسي هي رؤية غرفتنا، فتحت الباب الخشبي الكبير ثم بدأت أتفحص كل شبر بعينَي، فتشت وفتشت لم أجد سعد، قلبت الغرفة رأسًا على عقب ولم أجده، أمسكت أحد ملابسه شممتها بأنفي كانت تحمل رائحة أخي، عانقتها وبكيت كثيرًا حتى جفت عيناي؛ بكيت من أجل كل كلمة لم أنتقيها عندما ألقيتها في وجه أخي لترتاح نفسي وتشقى نفس أخي؛ بكيت لأنني لم أبنِ ما يكفي من الذكريات مع أخي ونحن الذين أقسمنا أن لا يفرق بيننا إلا الموت؛ بكيت لأنني كنت متهورا ومتسرعا حيال كل شيء فعلته بأخي، آه على قلبي الذي تقطعت خيوطه، آه على جسدي الذي ينتفض من فرط حُبٍّ وفرط صَبابة.
حاول أبي وأمي كثيرًا أن يكسرا باب الغم الذي حبسني منذ عام كامل من العزلة، حاولا أن يخرجاني من تلك القوقعة التي حبست نفسي فيها، ومحاولة تلو الأخرى لم تجنِ ثمارها، إلا محاولة واحدة نجحت عندما قال أبي: إلى متى ستبقى تائهًا وهائمًا بين جدران نفسك الضيقة؟ إلى متى ستبقى على هذا الحال؟ منذ استيقاظك من الغيبوبة لم ألمحك بحالة جيدة قط؟ أليس من حقنا أن نرمق ابننا الذي أنجبناه وهو بخير؟ لقد هرمنا لرؤيتك تبصر هذه الحياة؟ فلمَ تحرمنا من رؤيتك؟ وأخوك لم تزر قبره ولو لمرة واحدة، إن كنت تشتاق له مرة فنحن نشتاق له ألف مرة، ولكنه الموت لا يعرف من يصيب، لا يعرف القريب ولا البعيد، فاخرج يا بني اخرج ولا تؤرقنا أكثر من ذلك، إن مات سعد فسعود ما زال حيًّا.
تأملت وجه أبي، تأملته بعينَي الناعستين، ثم قلت له: لقد تعبت كثيرًا يا أبي، أشعر وكأن كل شيء قد حدث بالأمس، أريد أن أرى أخي ولكن لا سبيل لذلك أبدًا، لا أراه إلا في أحلام يظهر تارة ثم يختفي، فقال: ضع معطفك والحق بي.
نعم لقد لبيت طلبه وسرت خلفه بخطوات خافتة متسائلا: إلى أين نحن ذاهبين؟ فأجابني ستعرف قريبًا، ومرت عدة دقائق ولم أعرف وجهتنا، حتى توقف أبي ثم أمسك بيدي وقال: خطوات قليلة تفصلنا عن المكان الذي كان يجب أن تزوره منذ فترة طويلة، مشينا ومشينا حتى وصلنا لأرض فسيحة كلها مقابر منها ما تلتف حوله الرمال والأتربة والحصى، ومنها ما يزدان بالزرع والخِضرة، سِرت بخطوات سريعة ثم لمحت اسم أخي فقلت: لقد جئت بي إلى هنا لأرى قبر أخي أليس كذلك؟ فقال: أحضرتك إلى هنا لترى كيف صار حال أخيك، انظر إلى قبره، انظر كيف الزهور نبتت لتزينه في مدة قصيرة، كل يوم كنت أزوره وأصلي عليه وأدعو له والشوق يكاد يقتلني وأمك، كل مرة كنا نكابد أوجاعنا، في النهاية فقدنا الغالي والعزيز، وهل فراق أحبائنا يساويه شيء؟ لم نصفق له يوم تخرجه، ولم نودعه عند سفره، ولم نحضر زفافه، ومع ذلك أملنا بالله في رؤيته بالجنة أكبر من أي شيء.
جثوت على ركبتي واغرورقت عيناي وقلت: يا أبي لم يُصبني الحزن لأنني أشتاق فقط، بل لأني نادم أشد الندم على الفعل المريع الذي ارتكبته في حق أخي، ندمت لأن الذكرى الأخيرة التي جمعتني به كانت شجارًا انتهى بابتعادي عنه ونفوري منه، أتراه يسامحني؟ أو يصفح عني؟ لقد نسيت أمر الحياة برمتها منذ أن مات، لا أستطيع التصديق وكأنني أعيش في قلب الوهم، يا أبي أتمنى أن أعود إلى حياتي البسيطة التي كنت أفرح فيها بصلاة الوتر أو كتابة سطر، وأتمنى أن أقابل أخي مرة أخرى لأعبر له عن مدى أسفي، ولأعترف له بكل الأخطاء اللي اقترفتها بحقه بسبب مراقبتي له ونسياني لمراقبة ورؤية نفسي وتهذيبها، وضعتُ نهاية لعلاقتنا وكل ما كان يطمح إليه ويعمل لأجله، لا أستطيع أن أتناسى لا أستطيع!
ربَّت أبي على كتفي وقال: الحزن على موت أخيك لا يعني أن تبيع كل شيء بلحظة، لا يعني أن تموت أنت أيضًا، ولا يعني أن تُصبح ضعيف العزائم أمام كل تفاصيل الحياة، قل لي، أتتلهف للقاء أخيك ولا تتلهف للقاء ربك؟ وكيف يهنأ لك البال وأنت هجرت سجادة الصلاة منذ عام كامل؟ كيف تستسيغ الراحة وأنت بعيد عن الله؟ هل هذا لأنك مكسور ومكدر؟ يفترض أن يكون موت أخيك أدعى للصلاة والدعاء له في كل سجدة، إن كنت تظن أن الحبل الذي بينك وبين أخيك انقطع فمن المحال أن تكون محقًّا، لتعلم يا بني أننا كلنا سوف نعود من حيث أتينا، سوف نعود للتراب، وكلنا سنلحق بأخيك عاجلًا غير أجل، فلا تتعلق بفانٍ فتفنى، بل تعلَّق بباقٍ لتبقى، ولا تنسَ نصيبك من هذه الدنيا، ولو كان أخوك حيًّا فحتمًا كان ليغتبط بما ستفعله وتحققه من إنجازات، وإن لمنكن برفقتك فحتمًا سوف يقف أمامك ويشجعك وكأنه جمهورك الوحيد، صدقني يا سعود، إن الله قد اختار سعدًا ليلتقي به، فهذه الدنيا ليست إلا دار تعب والله لا يريد لنا سوى لقاءه، فهوِّن على نفسك، وعُد إلى الله عودًا جميلًا واسعَ ثم اسعَ، وليكن كل ما تصنع ابتغاء لوجه الله ثم صدقة جارية عن روح أخيك، والله إن المُتوفى لا يسعده شيء أكثر من إحسان أهله إليه حتى بعد مماته.
انفجرت عيناي بالبكاء أكثر من أي مرة أخرى، وقلت لأبي: بعدما أدركت كل حقيقة تسير حولي، وجدت أنني لم أكن أضر أحدًا أكثر من نفسي، ولم أهشم سوى نفسي، اللهم إني تبت لك فاغفر لي توبتي واغسل حوبتي، اللهم وارحم أخي واجعل قبره روضة في رياض الجنة، اللهم آنسه في وحدته ووحشته، اللهم وأنزله منازل الشهداء، واكتب لنا مكانا في جنة النعيم.
عدت إلى المنزل، عدت وأنا مُحمَّل بشيء مفقود ضاع مني منذ سنوات، حُمِّلت بالرضا والتخطي، حُمِّلت بإيمان جديد يدفعني نحو افتراش سجادة الصلاة بنفس أخرى، نفس طاهرة تريد التوبة بأي طريقة ممكنة، وتريد السجود لله بكل ثقلها، تريد أن يلهج لساني بالدعاء لأخي حتى آخر رمق، حُمِّلت بالسعي نحو العودة لما كان يشعرني بأني مميز، السعي نحو قلم تلتف نصوصه حول السطور، فلا تتركها دور النشر حبيسة الدفاتر، وسعيت نحو إنجاب رواية تعلِّم الإنسان كيف أن يكون أخًا، وتُذكِّره بقيمة اللحظات التي تُصنع مع من يحب، وخصوصًا إن كان أخاه وسنده، ولتُثبت للجميع وخصوصًا أنتم أيها الحاضرين لحفل توقيع تلك الرواية أنه للأمل نبض، وللحب أرض، فهمسات الأحبة لا ترحل، بل تبقى تجول في كل وريد في القلب، مثل أخي الذي تمنيت أن يجلس اليوم بجانبي بصفته بطل روايتي الأولى «العضيد» فما زالت تستحضرني ذكراه، ومازلت كل يوم أقف بين يدي ربي وأدعو له بكل ما أحمله من كلمات، فوالله لن أجد وهجًا أكثر من وهج حضوره في قلبي، وإن وارى جثمانه الثرى فذكرياته ستبقى حية لا تموت.