مربية الأجيال

مربية الأجيال

سعيدة سالم 

اللوحة: الفنانة السعودية ليلى مال الله

نصوص لشباب واعدين في مقتبل الكتابة

 في شهر ربيع الآخر عندما تساقطت أوراق الشجر معلنةً دخول فصل الخريف، جلست منار محدّقةً بذلك المنظر خلال نافذتها، غير مُعطية للأوراق المبعثرة فوق طاولتها أدنى اهتمام، إلا بالورقة التي طلب الأستاذ منها ومن زملائها تعبئتها حول وظيفتهم المستقبلية، في الواقع لم تتجاوز منار آنذاك سنتها الثالثة عشرة، فمحتوى الورقة كان محور الموضوع الذي تتم دراسته في مادة اللغة العربية، ماذا سأصبح؟ 

أعطى المعلم الكثير من المميزات لكثير من الوظائف كمهنة المهندس والطبيب وحتى المزارع، تذكّرت منار معلّمها وهو يقول: أبنائي الطلبة، جيل المستقبل، مجتمعنا في حاجةٍ ماسّة لقادةٍ عظام ومُصلحين ومُربّين، أنا أثق أن هذا الفصل الدراسي مليء بالمبدعين والمميزين، لذا أنا أبذل جهدًا في تزويدكم بأعظم سلاح عرفته البشرية، أنا وأخوتي المدرسين نجتهد في تجهيزكم للكفاح في هذه الحياة، لسنا مُرغمين على ذلك لكننا نُحب أن نُبرز تفوّقكم بجانب العِلم، المستقبل مكان بعيد لكن لا يمر الكثير حتى تدرك أنك دخلت نطاقه، لِذلك أدعوكم جميعًا للتفكير بما يخدم ديننا وأوطاننا، أنتم من توصفون بأعمدة المستقبل أنتم من ستكونون في مركز آبائكم وأمهاتكم يومًا ما، لذا من الواجب معرفة ما ستغدون عليه حتى ذلك اليوم، حتى تكون بالاستطاعة صقل المهارة والعلوم اللازمين لتحقيق المبتغى.

سحبت منار نفسها من دوامة التفكير عندما أدركت أنه قد حان الوقت لخروجها مع صديقاتها، كانت قد طلبت من والدها الإذن مسبقًا للخروج، لذا لم يكن لديها سوى تبديل ملابسها والتوجّه رفقة أختها الصغرى للمكان المتفق عليه، لقد كان مركز التسوّق القريب من منزلها لذا لم تكن هناك حاجة للذهاب بالسيارة، ما إن وصلت مع شقيقتها حتى رأت ثلاث أيادٍ تلوّح لها وصوت أعز صديقاتها نجوى ينادي باسمها، اجتمعن جميعًا وتبادلن أطراف الحديث، وأثناء تسوُّقهن رأت منار أحد عُمال النظافة وحنّ قلبها عندما كان يجمع أكوابًا بلاستيكية مطبوعٌ عليها شعار إحدى علامات المقاهي الأكثر شهرة في المنطقة، لذا ناولت شقيقتها القليل من العملات النقدية وحثّتها على إعطائها لعامل النظافة، شعرت بفخر وسعادة عندما فعلت أختها ما طلبته منها بكل سرور، ولاحظت تأثير البذل والعطاء على نفوس الجميع، واستذكرت وذكّرت صديقاتها بحديث النبي صلى الله عليه وسلّم: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ بعد التسوّق، عادت الصديقات لمنازلهن كما فعلت منار وشقيقتها، حالما وصلن للمنزل اتجهت منار للنوم حيث كانت مُرهقةً جدًا بعد ذلك اليوم.

استيقظت منار في اليوم التالي مُبكِّرًا رغم أنه ليس يوما دراسيا، صلّت لله وتناولت فطورها وشرعت في مذاكرة دروسها التي لم تستطع مذاكرتها بالأمس، وسرحت مجددًا في تساقط أوراق شجرةٍ كانت فيما سبق كثيرة الأوراق ومُزهرة في بعض أجزائها، علّقت منار ورقة مهنتها المستقبلية على الجدار المقابل لها، حتى تكون نصب عينيها أغلب الأوقات، إن معرفة واكتشاف نفسها كانا ما يثير اهتمامها حديثًا، حاولت التّأكد مرارًا من ذوقها في الملابس، لكن اكتشفت أنها عشوائية جدًا في اختيارها، وعندما أرادت معرفة فاكهتها المفضلة أدركت أنها تتناول جميع أنواع الفواكه ولا تعتقد أنها تفضّل أيًا منها؛ لأنها تستمتع بتناولها جميعًا! لذا في هذه المرة شعرت بالمسؤولية حول معرفة ما تحب أن تعمل بعد التخرج، لكن كعادة منار لازالت غير مُلمّة بذلك، في الواقع منار غير مُحبطة حول ذلك، حيث تجد أنه من الطبيعي عدم معرفتها بهذه الخصوص، تعتقد منار أن الإنسان كثير التغيُّر والتقلب فيما يحب ويكره، لذا من غير المجدي اختيار شيء محدد والالتزام به، ربما لا تعلم أن حب شيء ما لا يعني الالتزام وإجبار النفس عليه، بل هو ما تتوق نفوسنا له دون الشعور بالثقل حياله، تابعت منار مذاكرة الدروس وحلّ الواجبات، لكنها فوجئت عندما أخبرتها والدتها أنهم سيتوجّهون للشاطئ بعد تناول الغداء، حيث شعرت بأن رأسها سينفجر من بعض المعادلات الجذرية التي أتقنت حلّها بصعوبة، لذا لم تكن فكرة الخروج إلا فرجًا بالنسبة لها.

جهّزت العائلة المكوّنة من والدَي منار وشقيقتها الصغرى (نورة) الشاي وحفنة من حب الشمس المُبخّر وبعض الوجبات الخفيفة للاستئناس بها قُرب البحر، لحسن الحظ كان الجو مناسبًا جدًا لتلك الرحلة لذا كان ذلك مُدعاة للمسرة.

استمتع الجميع بالهواء المنعش الذي هبّ من ناحية البحر، كما كان من الرائع مشاهدة حبات الرمل الذهبية بينما تبني نورة قلعةً بهِ، وما أثّر في نفس منار هو مدى زُرقة البحر، كان عميقًا وبدا لها متسعًا جدًا، قالت في نفسها إنها وجدت مكانها المفضل أخيرًا، رغم قدومها للبحر كثيرًا قبل هذه المرة إلا أن اللحظة التي تركت نفسها تتأمله قدر ما تشاء؛ جعلتها تشعر بالانتماء لهذا المكان الساحر.

بعد قضاء فترة العصر في البحر، رجعت العائلة إلى المنزل بعد صلاة المغرب، حيث صلّوا في المسجد جماعة، جلست منار على كرسيها وحدّقت مجددًا في تلك الشجرة المحاطة بأوراق برتقالية حمراء وقد توقّف تساقط الأوراق من عليها، رفعت رأسها للسماء حيث كان القمر بازغًا، لم تجد إلا أن تنظر إليه بصمت وحتى دون تفكير، كانت تتمعّن فيه كما لو اختفت جميع مشاغل الحياة، لا يوجد سواها وإيّاه في لحظةٍ توقّف فيها الزمان، لم تُرِد التوقف عن فعل ذلك لولا تذكُّرها تلك الورقة المُعلقة على الجدار، شباكٌ من التفكير المفرط كانت في انتظارها تلك الليلة عندما وضعت رأسها على الوسادة، كانت منار تُجيد التحدُّث عن كل ما يمر في خاطرها لكن داخل رأسها فقط، لم تَبُح بشيءٍ قط، لذا كانت تشعر بالثقل دومًا، جُلّ ما تريده هو العودة للسلام الذي شعرت به عندما كان القمر خليلها.

 لحسن الحظ لم يكن هناك موعد محدد لتسليم ورقة تحديد مصيرها بعد التخرج، لذا خفف ذلك من قلقها حولها، وبالتالي اختارت منار تقرير ما ستكونه ببطء وعلى مهل، وركّزت على تحقيق مراتب عليا في دراستها، لم تستوقفها فكرة أنها لا تعرف ما تريد بل جعلتها تصبح حازمة بخصوص الحصول على أعلى ما تستطيع لتختار تخصصها لاحقًا بتروٍّ، لذا كانت منتظمة الذهاب إلى المدرسة والعودة لمراجعة دروسها، مرّت الفصول الأربعة وعادت مجددًا مرّات عديدة، لتستيقظ منار في يوم أصبحت ذات خمسة عشر ربيعًا، كبيرة كفاية لتكون عضوًا فعّالاً في الترتيب والتجهيز لقدوم شهر رمضان المبارك، فكما هو معروف، الأجواء الروحانية والطمأنينة الحالّة في أفئدة الجميع قُبيل رمضان قد بدأت التسلل لمنزل عائلة منار، وكما تجري العادة، تنظيف المنزل كاملًا وتزيينه كانت مهمة منار وأختها نورة، قد يكون أمرًا شاقًا لكن من اعتاد شيئًا لن يظنه كذلك!

رغم مرور السنين إلا أن منار مازالت على عهدها مع نفسها في الحصول على أعلى الدرجات، لذا كانت دائمًا تُعامل الدراسة كجزء من روتين حياتها، في الواقع لقد كانت كذلك، لم تسأم قط منها كبقية الطلاب رغم معرفتهم لما يريدون وتجرّدها من الإدراك لما تسعى للحصول عليه، مازالت تحدِّق بالشجرة القابعة قرب منزلها كلما سنحت لها الفرصة، فإن منار تهوى الطبيعة، وبخصوص الورقة التي طلب الأستاذ تعبئتها، فقد قامت منار بكتابة وظيفة ليست مما تحب؛ فقد كان موعد التسليم وشيكًا ولم تصل بعد لهدفها، نسيت منار تقريبًا معنى التفكير المفرط، فأصبحت منشرحة الصدر مُقبلة على الحياة بكل ابتهاج.

عند غروب شمس ليلة التاسع والعشرين من شهر شعبان، ثبتت رؤية الهلال مُعلنة بداية شهر رمضان الكريم، عمّ الفرح أرجاء الأمة العربية الإسلامية مهنئين بعضهم، وأُطلقت الألعاب النارية احتفالًا بقدوم هذا الشهر الفضيل، توجّهت أسرة منار إلى المسجد لإدراك صلاة التراويح، وقد كان مكتظًا بالناس مما أدخل السرور في قلوب الجميع بأن الشعائر الدينية لا تزال قائمة في مجتمعنا، بعد الصلاة والعودة إلى المنزل قامت والدة منار بدعوة الأهل على مائدة إفطار اليوم التالي، وبالفعل لبّى المدعوون الدعوة، وتشاركوا الإفطار على مائدة واحدة، وخلال هذا الشهر الكريم لم تكف الأسرة عن إرسال الصحون المملوءة بأشهى الأطباق إلى الجيران وتلقيها مملوءة مجددًا منهم.

كانت منار مداومة على قراءة القرآن، مساعدة والدتها، وصلاة التراويح خلال شهر رمضان، كما كانت تصل أرحامها كلما سنحت لها الفرصة، تلك العادات اكتسبتها من عائلتها ومجتمعها مما جعلها تفكّر أن الخير مازال موجودًا فربما قصد المعلم ذات يوم أن من يملكون تلك العادات يجب أن يعلموها للآخرين، لذا بدأت في الوقت الفارغ من يومها بتجميع أطفال الجيران وتعليمهم شيئا بسيطا مما قد ينفعهم، وعلى هذا المنوال انقضى شهر رمضان، لم يسع منار إلا إسقاط الدموع من عينيها لأنها تُحب هذا الشهر الفضيل وهي لا تعلم إن كانت ستستطيع عيش هذا الشهر مجددًا، فرددت في خواتيم شهر رمضان: اللهم إنا استودعناك رمضان فلا تجعله آخر عهدنا، وأعده علينا أعوامًا عديدة ولا تخرجنا منه إلا مقبولين ومرحومين ومعتوقين من النار.

 استيقظت منار صباح العيد مُكبّرةً ومستعدة للخروج مع أهلها لصلاة العيد، فكما جاء رمضان بالخير والمسرة، أقبل العيد بكل الفرح والسرور، زارت منار أقاربها وهنّأتهم بقدوم العيد فما كان منهم إلا الامتنان وردّ التهنئة لها، بعدها بدأ الجزء المفضل للجميع، توزيع العيديات، جمعت منار خمسة وعشرين دينارًا فيما تفاوت البقية في المال الذي حصلوا عليه، وهكذا مرّ العيد باستمتاع الجميع، وعادت المدرسة لتكون نصب عيني منار مجددًا، فما كان منها إلا أن تنتظر موعدها بفارغ الصبر، فقد اشتاقت لزميلاتها والأجواء المدرسية التنافسية، فهي لا تعلم حقًا ما سيحدث خلال هذا العام.

إنه فصل الصيف، أكثر ما تتشاءم منار بشأنه، لا شيء يمكنه التقليل من حرارة الصيف في بلادها، لا بوظة ولا عصير ينعشها، حتى وحدات التبريد لا تقوم بعملها بشكل جيد! شكت منار لوالدتها عن حالها فحثّتها على الصبر واحتساب الأجر، وهذا ما توقعت تمامًا أن تقوله، رغم إيمانها به إلا أنها لازالت غير راضية عن شدة الحرارة في ذلك اليوم بالتحديد.

 انقضت العطلة الصيفية بحرارتها كالبرق، رغم شوق منار للمدرسة إلا أنها سحبت كلامها عندما أوشكت المدرسة على فتح أبوابها، لكن لا مفر من ذلك، اليوم التالي هو أول يوم دراسي في ذلك العام، جهّزت منار حقيبتها وقامت بكيّ زيها المدرسي، وتوكلت على الله ثم توجهت إلى النوم، ربما لم تستطع فعل ذلك؛ فبقيت نصف نائمة طيلة الليل، صباح اليوم التالي كان ثقيلًا، فعدم قدرة منار على النوم جيدًا أثّر عليها ولكن سرعان ما اختفى عندما التقت بصديقاتها، فحديثهن الذي اشتاقت له أنساها الأرق.

حضرت منار اليوم الدراسي الأول كاملًا، تعرّفت على معلماتها وأغلب زميلاتها في الفصل، حظيت بمتعة كبيرة عندما استوعبت حجم المنافسة التي ستحظى بها هذا العالم، حيث بدت جميع الطالبات جادّات حيال نيل أعلى درجة خلال الفترة الدراسية، فلم يكن لدى منار خيار سوى المذاكرة بعد العودة من أول يوم في المدرسة.

 شدّ انتباه منار ذِكر موضوع مألوف في أحد الكتب الدراسية، حيث استغربت من تكراره مرة أخرى هذا العام، نعم كان درس ماذا سأصبح؟ في مادة اللغة العربية، تذكّرت منار أنها لا تعلم بعد ما ستكون وأنها تحتاج للمزيد من الوقت لكنها قطعت على نفسها وعدا بأن تملأ الورقة بوظيفة حقًا ترغب بها هذه المرة.

 بعد عدة أسابيع حان الوقت أخيرًا لتناول ذلك الدرس، دخلت المعلمة وألقت السلام وردت الطالبات كعادتهن، ثم استرسلت المعلمة بقول: بناتي الحبيبات، عظيمات المستقبل.. ذكّرها ذلك بمعلّمها عندما كانت في الصف السابع، حين اعتقدت أن حديثهما سيكون مشابهًا أكملت المعلمة قائلة: ماذا تردن أن تكُنّ؟ من الصعب صياغة السؤال بهذه الطريقة كما هو من الصعب الإجابة عليه لذا سأعيد صياغة السؤال: من أنتن؟ ماذا تحببن؟ كيف تردن أن تقضين حياتكن؟ الإجابة أصبحت أسهل الآن؟ اكتبن ما أقوله على الكتب. 

 شعرت منار بالاهتمام بينما قامت بتدوين الأسئلة على كتابها ثم استأنفت المعلمة الحديث: من كان يتخيّل أن بنتًا كانت تعد التمر قبل أن تأكله، وتنظر للسماء كلما ضاقت بها الحياة، أن تصبح معلمة حازمة وأما حنون لطالباتها؟…ما أقصد قوله، لا تنظري لحالك الآن عندما تقررين ما ستكونينه، فما أنتِ الآن سيكون شيئا من الماضي لكن لا يمكن التحرك الآن بدونه، لذا من اللازم بذل الجهود وذرف الدموع وحصد الدروع لتكوني قادرة على الإمساك بتلك النجمة الصغيرة التي أسميتها يومًا ما (حُلُمي)، وأنا أثق أن باستطاعتكن جميعًا فعلها كما فعلتها أنا! ابنتي العزيزة، لا ترغمي نفسك على مالم تختاريه، لكِ كامل الحرية في رفض وقبول جميع الاقتراحات التي تصلك، إنها حياتك عيشيها كما تحبين أن تلتقطي حبات التوت الناضجة، اختاري قرارات تليق بكِ كآنسة لها احترامٌ في المجتمع، تعلّم الانضباط هو من أولى أولوياتك، لا تتهاوني ولا تفرطي في عزمك، كوني دومًا سندا لذاتك، التقي بها كل ليلة وقوليلقد أنجزنا الكثير، سيري يا فتاتي على الطريق المؤدي إلى الفلاح.

 انتهى الدرس، أعدنا الكراسي إلى أماكنها وعدنا إلى منازلنا، لم تشعر منار قط بالإلهام كما شعرت في تلك اللحظة، كما لو أن جميع النجوم في السماء تدعوها لتكون بينهم، دخلت منار غرفتها وجلست على كرسيها مُحدِّقةً بذات الشجرة التي تنظر إليها عبر النافذة، هذا اليوم من تلك السنة كانت الشجرة كثيرة الأوراق خضراءها، بدا منظرها منعشًا لولا وجود أشعة الشمس الحارقة، يبدو أن الطبيعة لا تتماشى مع مشاعر منار هذه المرة، أخرجت منار كتابًا من حقيبتها وبدأت تردد: من أنا؟ ماذا أحب؟ كيف أريد أن أقضي حياتي؟ كررتها مرّات عديدة إلى أن أصاب رأسها الفتور، استلقت على سريرها وحدّقت بالسقف مباشرةً، قالت: من أنا؟ أنا منار أعيش في الكويت وسط أحضان عائلتي، أشعر بالسرور عندما أُفيد أحدًا بشيءٍ تعلمته، ماذا أحب؟ أحب الله…أحب البحر وأحب القمر والنجوم، أحب عندما أخرج مع عائلتي في رحلة، وعندما أجتمع بصديقاتي، أحب الطبيعة وأحب نفسي، كيف أريد أن أقضي حياتي؟ كالشجرة أمام منزلي، يستظل الناس بي فأنا أنفعهم، ويأكلون من ثماري فأنا أطعمهم، يسقوني ويحبوني فأنا أحبهم كثيرًا، أريد أن أكون كالبحر في عطائه، وكالقمر أبزغ لأكون مساحة لمن أراد إحياء الأمل، هذه أنا.

 كان حديث المعلمة ملامسًا لقلب منار مما جعلها تدرك من هي فعلًا، ومن خلال رحلتها في البحث عن نفسها تعلّمت الكثير، ومن هنا ندرك أن أمور الحياة تنهمر علينا مطرًا وليس المقصود بالمطر أن يكون العائق، بل يكون المُنجي، الحياة رحلةٌ طويلة شاقة ومتعبة ولكن ما ظنّك في حياة تعيشها كما تحب؟ هذا ما يجب أن يعيشه وأن يتعلم عيشه قادة المستقبل، نحن… المزوَّدون بالعلوم النافعة والعادات المتناقلة المجدية، جعلنا الله –عز وجل- فخرا وقوة لهذه الأمة، فكما عرفت منار حلمها، فقد الكثير منّا ما كان يبنيه لسنين عديدة، لكن لا بأس…إن الله معنا، سيرشدنا لطريق الحق والفلاح دومًا لذا لا داعيَ للخوف، نحن تحت رعاية الله.

أدركت أنها كانت دومًا قُرب حلمها لكنها لم تعلم، كانت دومًا تعلِّم من تستطيع تعليمه، وتذكِّر من استطاعت تذكيره، كانت دومًا معلمة مخلصة وشغوفة بنشر العلم، نقلت منار قصتها لمعلمتها، فشجّعتها حتمًا على إكمال ذلك الطريق وقالت لها: لقد اخترتِ حبة التوت الناضجة!، فيما أوفت بوعدها حينما كتبت كونها ترغب في أن تصبح مربية الأجيال، (معلمة) بفخر كبير، لذا واصلت السعي الدؤوب لتقفّي أثر يوم التخرج بدرجة كاملة، كُرِّمت جميع الطالبات ذاك اليوم، وكان خطاب التخرج من نصيب منار حيث قالت: بمرور العديد من السنين، أصبح هذا اليوم حقيقةً نعيشها لذا.. شكرًا، شكرًا لله وشكرًا للمعلمات وشكرًا للزميلات وشكرًا لأنفسنا، مازلنا في بداية الحكاية التي سنرويها يومًا ما بكل موعظة، لكننا قطعنا شوطًا كبيرًا، أنا أؤمن أننا جميعًا مررنا بالكثير من الليالي الشداد، لكننا تغلّبنا عليها، كما أزهرت شجرة الكرز بعد نجاتها من شتاء طويل، لن نترك ذكرياتنا في المكان الذي تلقّينا فيه العلوم وصُفعنا فيه من قبل الامتحانات مرارًا، ولن ننسى معلماتنا الفاضلات، أنتن نورٌ لنا عندما كنا نهيم في الضياع، لأمهاتنا نصيب من هذا النجاح فاللهم احفظهن لنا وارزقهن سعادة لا تنقطع وبسمة تظل تعلو وجوههن، وارحم من فارقت روحها هذه الأرض الفانية وارزقها الجنة ورغدها، كما أتوجّه بجزيل الشكر والامتنان لكل من كانت له يد في خروج هذا الجيل الواعد الطّموح لعنان السماء.

 اختتمت خطابها بهذه الكلمات النابعة من صميم قلبها، كانت ممتنة لكل الأيام التي تعثرت فيها وممتنة لنفسها لأنها عاودت الوقوف من جديد، ثم تابعت المضي في طريقها الخاص، وبالطبع واصلت المثابرة حتى تصبح ما تكون، وفي كل مرة كانت تجثو منكسرة الخاطر تتذكر أيامها الخوالي، منار السيدة الصغيرة البالغ هدفها عنان السماء، هل تنكسر الآن؟ قطعًا لا، فما وُضِعَت في هذه الصعوبات إلا لأنها قادرة على التغلب عليها وتذكر قوله تعالى: لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وتمضي في طريقها مجددًا.

 تبدو النهاية سعيدةً جدًا من هذا المنبر، أصبحت منار ما أرادت دومًا أن تكونه، صارت معلمة واعدة يحبها طلّابها، ولم تكتفِ بذلك فقط، فمنصب مديرة المدرسة كان من نصيبها بعد بضع سنين، أحيَت الأمل في قلوب الكثير من الناس، كما أشرفت على نموّ جيل آخر يحمل أحلامًا كبيرة كما كانت يومًا، من كان يعلم أن فتاةً تركت ورقتها المصيرية فارغة ستصبح معلّمة تملأ بتأثيرها أوراق العديد من الطلاب ممن كانوا مثلها، مازالت الأستاذة منار ممتنة لمعلّمتها الغالية ولازالت تذكر كلماتها جيدًا، في الواقع إنها تستعمل كلمات معلمتها في تدريسها كما لو كانت حلّا لجميع مشاكل الأطفال، وهي فعلًا كذلك، إنه لمن الجميل الاستمرار في قصّ مثل هذه الحكايات، وبالأخص على الصغار، فنحن نهدف لخروج جيلٍ واعد يحكم العالم بعدل، لا بمزيد من تدخلات الغرب غير المرغوب بها، وبذلك سيصبح المحال ممكنا في اكتشاف ذواتنا والبحث عن أحلامنا الثمينة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s