فواز خَيّو
اللوحة: الفنان الإسباني فرانشيسكو جويا
كثيرا ما كنت أتجادل مع البعض في الاجتماعات المهنية وحتى الحزبية، خاصة حين يهاجم البعض محطتي الجزيرة والعربية:
قلت لهم: كل دولة أو جهة تنشئ منابرها التي توصل خطابها ومشروعها للجمهور، وبدلا من انتقادها، لماذا لا تنشئون محطات بقوتها ونفوذها وتنشرون خطابكم؟
دول الخليج العربي قامت على آلية الاقتصاد والاستثمار والمصارف والخدمات، لهذا لم تنشأ عندهم طبقة مفكرين في السياسة والأدب، واستغلوا مالهم واستقطبوا أهم العقول العربية، وأنشأوا أهم المنابر الثقافية والأدبية والإعلامية، نحن لدينا المال والمفكرون، المال سخّرناه لشراء المزارع والفيلل وسيارات المرسيدس واللكزس وغيرها، والعقول هجّجناها.
في الكويت كان شارع الصحافة يضم أهم الصحف العربية، القبس والوطن وغيرها، ومجلة العربي الشهرية الأدبية التي انتشرت عربيا بشكل كبير، وفي الإمارات جريدة البيان والاتحاد ومنابر دبي والشارقة الأدبية التي استقطبت ومنحت جوائزها لأهم الكتاب العرب، وجريدة الحياة والشرق الأوسط السعودية، والراية القطرية، والنهار والسفير اللبنانيتان، والأهرام المصرية، ونحن ليس لدينا جريدة يُعتد بها على مستوى العالم العربي.
في الوقت الذي نامت فيه معظم المنطقة العربية؛ أصبح الخليج العربي منارة في كل شيء.
الخليجيون استلموا صحراء وحوّلوها إلى جنة، ونحن العكس.
نحن السوريين من أسس المسرح في العالم العربي، والكثير من المنابر، وجامعات ووزارات ثقافة منذ بداية القرن العشرين، والآن ليس لدينا شيء مهم.
العقل السوري يًبدع في كل مكان في العالم.
فقط اعطه الاحترام والأمان والحرية.
(كانت القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد منارات العرب في الفكر والثقافة والأدب،
الآن القاهرة ترقص وبيروت سكرى ودمشق تندب وبغداد تلطم).
***
كانت زاويتي ساخرة حادة لاذعة، قضّتْ مضاجع الكثيرين، بما فيهم أنا وأسرتي أيضا، وفرضت عليّ خصومات وعداوات ومعارك في أوقات لم أكن مستعدا لها.
ومن ضمن عشرين عاما قضيتها في التحرير من عام 1990 حتى نهاية 2010 لم أكتب أكثر من ثلث المدة إذا جُمعت الفترات التي كتبتُ فيها، وبقية المدة إما متمنّع بسبب مشكلة أو ممنوع.
مع محمود الزعبي (رئيس الحكومة آنذاك)
مرة في اجتماع حزبي كانوا يتكلمون عن الفساد، فوقفت وقلت لهم: تتكلمون عن الفساد والبارحة ابن محمود الزعبي وقّع عقدا ب 850 مليونا، فهل جلب المبلغ من خربة غزالة؟ (خربة غزالة هي قريته)، وكان محمود الزعبي رئيسا للحكومة، فهاجت القاعة وماجت، وخلال ساعة كانت كل أجهزة الدولة على علم بالموضوع.
كان الحزب في تلك الفترة لا زال يأخذ دورا قويا في البلد وكان أمين فرع دمشق علاء الدين عابدين رجلا قويا، وكان أمين الشعبة المركزية التي نتبع لها من آل الجاجة، في الاجتماع التالي حضر أعضاء من قيادة فرع دمشق وأمين الشعبة وجلسوا على المنصة مع رئيس التحرير، وقال أحدهم لكي يمنع الأخرين من النقد: إن هؤلاء المسؤولين عيّنهم السيد الرئيس، وأي اتهام لهم هو اتهام للسيد الرئيس. تصوّروا هذا الأسلوب الرخيص لمنع اتهام أي مسؤول بالفساد. حين طلبت الكلام قال لي احدهم: أنت ممنوع من الكلام، كانت السيجارة في يدي فرميتها عليهم وخرجت.
حققّوا معي في فرع الجزب فسألني نائب أمين الفرع: أنت قلت أنه يوجد في البلد مجاعة: قلت له: نعم فالموظف يداوم يوميا ثلاث ورديات، ويأتي آخر الليل إلى البيت وتطلع زوجته بدون وردية، فضحك. وأجبتُ على مجموعة أسئلة بشكل خطي، المهم أن أمين الفرع خفّض عضويتي في الحزب إلى نصير، إرضاء للزعبي.
كتبت في الصباح زاوية قلت فيها: أنا نائب المدير العام في المؤسسة الزوجية، وربما المديرة العامة رأت أني تجاوزت حدودي فخفضت عضويتي من زوج إلى خطيب، وتحدثت عن (الجاجة والديك)، أمين الفرع وأمين الشعبة الجاجة قصّا الزاوية وبعثاها للقيادة، لكن جاءهما توجيه بأن يُنهوا الموضوع..
بعد أيام كتبتُ الزاوية التي انتشرت كالنار في الهشيم:
ذهب محمود إلى الحج، وحين جاء ليرجم الشيطان قال له الشيطان: حتى أنت يا محمود؟
محمود: وهل سيقتلك الحجر؟
الشيطان: لا يقتلني الحجر، ولكن يقتلني الموقف.
محمود: أي موقف؟
الشيطان: أنا الذي كنت وراءكم وأوصلتكم إلى ما أنتم عليه، وفوق ذلك تنكرون المعروف وتقولون: هذا من فضل ربي.
إذا كنتم تريدون رجمي أرجموني بداخلكم قبل أن تأتوا لترجموني هنا.
أردتها حكمة على لسان الشيطان، وهي أن يرجموه في صدورهم أولا. ونكتة (تنكرون المعروف وتقولون هذا من فضل ربي)، انتشرت في البلد كله.
اتصل ابن الزعبي بزميلنا في جريدة تشرين شارل كاملة وكانت تربطهما صداقة وقال له: ماذا يريد منا فواز خيّو سنعطيه ولكن يحلّ عنا. فقال له شارل: عندما يأخذ فواز من غيركم سيأخذ منكم بالتأكيد.
للأمانة لم أتعرّض لسوء لا من الزعبي ولا من أولاده، وحين عاتبني أحد الزملاء من درعا قلت له: أنا كتبت عن الزعبي بصفته رئيس حكومة، وليس بصفته درعاويا، وأردفت مازحا: (روح خوذ توفيق صالحة) فضحك.
(توفيق صالحة عضو القيادة القطرية من عندنا من مدينة السويداء).
بعد عام أقيل الزعبي لنفس التهمة التي اتهمته إياها، ولم تُشطب عقوبتي.
وعلى العموم الزعبي كان جزءا من تركيبة، ولم أكن يوما مع فكرة «حين يسقط مسؤول يتم تحميله كل وسخ البلد»، والدليل سقط مسؤولون كثيرون وما زال الفساد أخطبوطا..
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو