خالد جهاد
اللوحة: الفنان البريطاني بن ماكلوغلين
لا شيء يمكنه أن يجمعنا بأنفسنا رغم اغترابنا عنها سوى الليل، فهو من يملك مفاتيحنا وجواز سفرنا ويعرف نقاط ضعفنا، ويستطيع بحنكته أن يحيل ما رفضناه نهاراً إلى واقعٍ نتمناه ونستجديه ونتألم لغيابه عندما نتعرى في حضرته..
فالليل ليس ثوباً تنقصه النجوم ولا مجرد (كورالٍ) يغني خلف القمر، بل هو منبع المشاعر الموءودة التي لا تعرف إلى البوح طريقاً..
هو شبيه الريح.. حفنةٌ من الموت وقطعةٌ من العذاب، يشبه رحيل القطار قبل أن يدركه المسافرون، ويشبه كل فرحةٍ يطفأها طول الانتظار، يحضن الخيبة يستر الحسرة ويواري الانكسار، ويفتح في جوفه بئراً يتسع لصرخات المحرومين وعذابات المستضعفين وجروح المغدورين التي تنوء الأرض بثقلها، وتبدو محزنةً كمخبزٍ مغلقٍ في وجه جائع، أو كجسدٍ يتجمد على رصيف ٍ منسي أمام متجرٍ لمعاطف من فراء الدببة، هو تلك الرعشة التي تعترينا في أحضان الوحدة، مثل لحن الأغنيات التي رحلت برحيل من سمعناها معهم، هو ذلك الشعور بالألم عندما نذكر أن أحبائنا سعداءٌ بدوننا لكننا لسنا كذلك..
هو طبيب الروح الذي لا نخفيه سراً وننفجر أمامه معترفين بخطايانا، معترفين بحبنا الذي كان جنةً وتحول إلى جريمةٍ بحق أنفسنا دون أن ندري، تماماً مثلما كبرنا أو أجبرنا على أن نكبر في غفلة ٍ من الزمان، فلا نصدق كم تغيرنا وكم أحببنا وكم كرهنا وكم احترقنا واشتقنا لقلبٍ لا يملك قلباً، أهديناه الربيع فأعادنا جثةً تقف منتصبةً بين الناس، كفزاعةٍ حمقاء في منتصف حقل لا يراها البشر ولا تهابها الطيور..
لا ننسى كم أوجعنا ولا نريد رجوعه.. لكننا نتمناه ونلعنه كل ليلة، كلما مرت ضحكته بالبال لتوقظ دمعةً غافيةً بجوار عقارب الساعة تتأرجح بوهنٍ كالبندول، تراقب من نافذتها عامل النظافة في شارع ٍ خالٍ وتتساءل إن كانت أحلامهما متشابهة ً في هذا الوقت المتأخر، وتتمنى أن تدعوه لشرب القهوة معها بصمت.. دون صخبٍ أو ضجيج ودون أسئلةٍ باهتة، قبل أن يعود لكنس القبح عن وجه المدينة التي خدشها أهلها وهجرها عشاقها وتركوا لها الشجن والذكرى والويلات، منفيةً في أرضها، غريبةً في جلدها، تتمدد وسط الصور والرسائل والأحلام والعبرات بجوار صديقها الليل، نديمها الذي التصقت به مع أنها تهابه وتلاشيا معاً في منفضة الرماد..
حانة الشعراء 