تَحَدٍ

تَحَدٍ

عبد الهادي شعلان

اللوحة: الفنان الإسباني فرانشيسكو جويا

 فتح حارس المقبرة الباب، رائحة الموت كادت تعيدهم للمقهى مَرَّة أخرى، فللأموات كرامة والوقت ليل، ولكن عناد خلف وإصراره على أن يستمر الهزار قلبها جد ومجلسهم: غاية الانسجام والأنس ككل يوم على المقهى المواجه للمقبرة، حَتَّى أنَّ المارة يحسبونهم سكاري، لأنَّ قهقهاتهم تصل لجدران القبور.

 وما حدث لم يكن متوقعا من خلف أبدا، فهو لم يكن بحاجة لأنْ يثبت أنَّ قلبه حجر صوان، وأنَّه لا يرتجف لأي شيء في الدُّنيا حَتَّى عزرائيل نفسه، فكلهم رآه أيام الحمَّي التي أصابت أهل بيته جميعاً، بمفرده رفعهم واحداً واحداً رافضاً أي مساعدة، كان يوما مشهوداً يوم رفع بناته وأسلمهن للمشرحة، نظراته كتمت صرخات النِّساء المنطلقة حسرة على من مات، في المساء كان يضحك وكأنَّ شيئاً لم يكن، من يومها أطلق عليه «أبو قلب ميت» فلماذا يغضب من حسان «القصير المدكوك» الميت دائماً في جلده؟ وأول من يجري عند هجوم الإزالة، يحمل أثواب القماش ويقذفها في دكانه بقوة لا يعلمون من أين تأتيه، تحسب داخله شيطان. يوم الإزالة، وما أكثر أيامها، يحلو لخلف التندُّر على حسان.

 – يا جدع كفياك رعب، أنت جبان ليه.

 -رعب، مش أكثر من اللي بيحصل لك، تصوروا يا جماعة، الواحد من دول يتخشب في

 الأرض ويعيب على الفهلوي!

 – أنا بترعب أنا… أنا ؟!

 – تقدر تدخل المقبرة دلوقت، تقدر.

 ويظل يكرِّر: تقدر، تقدر؟ وينهض من فوق الكرسي ويديه في وسطه كأنَّه يتحدى فعلاً، خَلَف نفسه كان يضحك وفي خديه بعض التَّوتر، وإذا وصل ضحكهم لتلك المنطقة، اندفع لسان حسان بتلقائية تجعلهم يخبطون أفخاذهم قبل أن تصل أقدامهم للأرجل وعيونهم على خلف الصابر عن قدرة وإن كان وجهه مغموسا في النكد.

– تقدر تدخل لآخر قبر رخام.

 وقوف خلف المفاجئ وانتفاخه، كوَّم حسان في مقعده كالفأر، ومع ذلك لا يسكت لسانه.

– هو يقدر! ده كلام.

 ويموت حسان في جلده ويموتون من الضحك.

– بينا.

 ظهرت علامات غضب حقيقية على وجه خلف، قضمت ضحكاتهم وحولتها لصمت مستغرب، حاولوا تهدئته لكنَّه صمَّم، بالفعل جاءوا بقادوم وأزميل ليغرسه كعلامة، إمعاناً في مرور ليلة مضحكة، لحظات عبورهم الطريق لبوابة المقبرة مفعمة بضحك مكتوم مصاحب لجذب جلباب خلف برفق بغرض منعه وفي نفس الوقت يغمزون حسان كي يشعلها ناراً. 

– لمَّا نشوف.. الميه تكذب الغطاس.

 اقترابهم جهة البوابة يحيِّ ضحكاتهم على حارس المقبرة، فقد كان إحدى النِّكات التي يعبثون بها إذا فرغت محتويات سهرهم، عيناه مغطاة بنظاره تجعلك ترى عينيه مدفونتين في منتصف تجويف رأسه، جسده كهياكل الموتى، كأنَّه دفن في قبر فاسق يُعَذَّب وهرب مع آخر نَفَس، بعضهم يقول ضاحكاً إنَّ ضعفه جاء من معاشرته للنساء الموتى، فالمرأة الميتة تسل الجسد، وبرغم معرفته لهم إلا أنَّه ما أن سمع عن سبب مجيئهم حَتَّى راح يحكي عن الأموات الذين يستيقظون كل ليلة، يصبحون أحياء، أفعالهم عجب، يتجمعون في حلقات دنْدَنة غريبة مخلوطة ببكاء مُرْ، وصول جثة رجل صالح للمقبرة لا تجعله ينام، فالأموات يقيمون فرحاً. 

 كلمات الحارس زادت تصميمه للدخول، حَتَّى إنَّ الحارس أرعبه بالعذاب الذي يتم في تلك القبور المكتومة: من ضم لضلوع النَّازل فيها حَتَّى تختلف و…… و……  قال كل شيء بالتفصيل، حَتَّى أصبحت نظراته حفر عذاب، ثعابين وديدان.. ديدان حية تلتهم الَّلحم، ولكنَّه أصرَّ وفتح الباب وجعل الحارس معهم في الخارج وأغلق الباب وراءه.

 الأصوات هي هي، يسمعها من وراء الباب كأنَّه معهم، يقهقه في نفسه على جبنهم، فلا شيء هنا يخيف على الإطلاق، مقبرة ومن فيها أموات «هأ هأ» تحركاته للداخل واثقة، بكل حواسه ينزع أذنه منهم، فبقدر ما يريد البُعد عن الباب يتوغَّل لعُمق العُمق، المسافة في رأسه، يعرفها بالتحديد، قطعها في الصَّباح مرات عديدة «يا عبط، سأدخل وأعود، لقد عددت الخطوات15،25..» كم؟، نسي الخطوات التي قطعها أين صوتهم بالتحديد؟ هذا ليس مهما الآن، المهم كم وصلنا في العَد، لسانه يعد وأذنه مع الصوت، مات صوتهم في صمت السَّواد الذي هو فيه. ليت واحدا منهم يسبه الآن، يلعنه؛ حَتَّى لا يظل يدخل هكذا، لعنة واحدة فقط، تربطه ببدء العودة «صوت واحد يا هووه»

 المسافة قطعها مرات والهدف كان أمام عينيه هاااه.. ما الذي أمام عينيه؟ نقطة واحدة كثقب الإبرة، تبرق، حك عينيه، البريق داخل العين في سواد بطن الغول، كاد بصره يخرج من كثرة إمعانه في الأمام «كان الهدف هنا» لمس شيء كتفه، التفت بسرعة، دار حول نفسه، الأشباح في السواد سواد: وميض مظلم لا يري، يبحث في لا شيء على اللاشيء، تاهت اتجاهاته، لم يعد وراءه خلف ولا أمامه أمام، يا ويله في الصَّمت الظَّلام، فما أبشع أنْ تكون مبصراً في جو أعمى، أيجلس هنا في نفس اللامكان حَتَّى الصباح؟ أم يصرخ وينادي عليهم؟ إنَّ دخولهم أمر مضحك ولا داعي للجبن، ولكن أين يتجه؟ استجمع قواه، شدَّ على القادوم والأزميل، للمَرَّة الأولى يدرك أنَّ للصمت صمتاً أعمق، في الخارج لا يعرف الرَّعشة، لم يستطع حي أن يجعل جسده ينتفض هكذا، الجسد الممتلئ بالدَّم والحياة أرحم، على الأقل يراه، فقط لو يرى أي شيء هنا، لو يخرج كل من تحت الأرض دفعة واحدة، أو واحدا واحداً، لقاتلهم ولقضى عليهم، كم عددهم هنا؟ «يا دين النبي» أموات ألوف ألوف الأعوام السَّابقة، أجناس وألوان لا حصر لها، لو يراهم، أمَّا أنْ يحيطوه هكذا كغلاف لامس غير ملموس، مسموع بلا صوت، مشاهد بلا حدود أمام بصره، بقدر ما كان مشدوداً لتكملة الطَّريق حنَّ للعودة، العودة الأولى، لا أمل في التراجع، فعددهم فعلاً كثير، لا يحصى، عيونهم سوداء تخرج من كل قبر، هل يمكن أن يحوي القبر الواحد عيون كهذه؟ بلا رموش أو جفون، عيون كروية سوداء، كور، كور، لا ترحم، تدخل فيه، تسأله، تتهمه، وتقاتله، أغلق عينيه، العميان حياتهم صعبة ولكن الأصعب ألا ترى شيئا وأنت مفتوح العينين، بالتأكيد تلك العيون مركبة على أجساد، أكيد أكيد. 

رفع القادوم، دار به يطيح بالصُّدور، يمزق الأجساد، ينهي لحظات اللاشيء التي هو فيها، أين الأجساد؟ أين جسده هو؟ ذاب في السَّواد وأصبح قطعة منه، والعيون دوائر دوائر في صفوف أسطوانية قائمة، حصرته وسطها، تسحب عينه لها، تتحرك معه وحواليه، هوى بالقادوم على العيون، تسيل أمام عينيه دماء سوداء، الفراغ يسقط في الفراغ، ألف ألف عين أحاطت رقبته، فقأ، فعص، سوائل لزجة غير محسوسة بين يديه، تحته آلاف الأيدي تجذبه لداخل الأرض، المكان كله حفر، حفر غامقة عميقة، يجري على جماجم بألسنة، مشقوقة وعظام مهشمة، مرعوباً يحاول أنْ يهرب للنهاية، ارتطم بشيء ضخم «ياااه» ليس المهم ماذا حدث لرأسه، المهم أنه وصل والسلام، وسيغرس العلامة، وعليه أن يعود، يعود.

لم يشعر بارتطامات القادوم العنيفة على يده، ذهل لسماع صوت الاحتكاكات بين القادوم والأزميل، عاد لواقع حي كاد أن ينساه، دُقْ، دُقْ، حَتَّى تسمع الصَّوت، وقف بعد أن اطمأن لغرس العلامة، أمسك شيء جلبابه، سقط قلبه في طرف الجلباب، في الجزء المقبوض عليه بقوة، تجمعت أعصابه ونخاع نخاعه في بؤرة واحدة عند بداية الماسك، هرب قلبه في رأسه فصنع عجينة مع مخه، سحب الماسك العجينة وكل عروقه ورماها دفعة واحدة في قاع القبر، قبر الميت، والميت صاح وماسك.

طال وقوفهم في الخارج فقرروا الدُّخول. بدت القبور على ضوء «الكلوب» صناديق فضة تسبح فوق سحاب داكن. ابتسمتْ القبور وسرقت الأضواء من الأرض وسحبتْ عيون أجسادهم. ابتسموا بلا وعي. تلاقت وجوههم مع نهاية الابتسامات. فض الاستغراب صوت أحدهم.

 – هاهو.

 كان يلهث قادما في ذهول شاحب ويده قابضة على القادوم والأزميل مغروز في نهاية الجلباب يتأرجح.


عبد الهادي شعلان كاتب مصري من مواليد الإسكندرية، عضو اتحاد كتاب مصر، مؤلف دراما معتمد بالإذاعة المصرية، محاضر مركزي معتمد بالهيئة العامة لقصور الثقافة. حاصل على ليسانس آداب من جامعة الإسكندرية. أصدر عددا من الكتب تتوزع بين القصة القصيرة والرواية والمسرح والدراسات وأدب الطفل. منها في القصة القصيرة: أنا الامام، ساكن البحر، فقط سويا، حي الأربعاء، فيما يشبه الركوع، دفء يناير، حياة أخرى لأمي، ذكورة اللبلاب، بالونات السماء. إضافة إلى واية للناشئة بعنوان مملكة الماء. وفي المسرح: عندما تستمع لحكاية، الرجل الذي اشتري حلما، نوركانا، يارخا، رأس البرمكي، أخي رياضي، مدينة الورق، الفاختة، العهد الكاذب، عشب الحياة. إضافة لسبع مسرحيات للنشئ بعنوان: الرجل الذي اشترى حلما. وفي الدراسات: رائحة الرواية، شعرا ضوء. كما نال عددا من الجوائز منها: جائزة قنبر الدولية لأدب الطفل 2020، جائزة الهالة لأدب الناشئة واليافعين 2020، جائزة المسابقة المركزية للقصة القصيرة من الهيئة العامة لقصور الثقافة.

رأيان على “تَحَدٍ

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s