نهلاء توفيق
اللوحة: الفنان الروسي فيكتور بوريسوف موساتوف
اعترضت أمي بشدة على زواجي منه لأنّنا في عمرٍ واحد.
– يا أمي والله لسنا في نفس العمر، هو يكبرني بشهرين.
– يا سلام عليك، وهل الشهران ستجعل منه رجلاً؟ ردت بعصبية.
قلت في تحدٍ: هو رجلٌ يا أمي، وقد تخرج من الجامعة وسيعمل في شركة.
صفعتني بردِّها: رجلٌ لطفلةٍ في عمر الخامسة عشر، وليس لامرأة في الثالثة والعشرين.
– أممم..
لم أعرف كيف أردّ وقد انهارت قواي وأنا أناقشها، فقلتُ بعصبيةٍ بعد أن وقفتُ لها كالندّ: تعبت يا أمي تعبت.. من أين لي أن أحصل على زوجٍ يكبرني بسنوات؟ هل أبحث في قوائم خريجي السنوات الماضية؟ أحببنا بعضنا من أربع سنوات وما زلنا يا أمي.. ثمّ بكيت وبكيت.. بعدها بدأتُ بالتوسل الذي كان لا بدّ منه؛ فصارت تحاكيني ببعض اللين: يا بنيتي، خطأ كبير أن يكون زوجك في نفس عمرك، عندما تشيخين سيكون هو شاباً تتمناه النساء.
تدخل أبي والأعمام والأخوال؛ فكان الزواج الذي باركته أمي مجبرةً.
اليوم عيد ميلادنا نحن الاثنين، وهو الأول بعد زواجنا، فقد اتفقنا تجاوز فارق الشهرين بيننا وإقامة العيد في يوم واحد، كنّا وحدنا، قمنا بتصوير كل الحفلة بفنٍ وبراعة وبعثناها للأهل والأحباب.. كم كنّا سعيدينِ وقتها!
جاءتني التهاني على حسابي الشخصي، ولكني أخبرت صديقاتي بأن عيد ميلادنا صار واحداً، فصرنَ يبعثن لي الضحكات، وبعضهنّ من أتهمتني بالبخل بمزاحٍ وقهقهات.
تمر السنون، واليوم هو عيد ميلادنا الأربعين، الحفلة كانت راقية جداً بوجود الأولاد وهداياهم المفرحة.. تلقيت في صفحتي الشخصية التهاني والتبريكات، والمزاح الثقيل من بعضهن: «عجّزتِ خلاص..» «الأربعين يا عجوز ها ها ها..»
«من الآن سنقول لك عمتي» «مليون مبروك.. وعقبال المئة»
لا أخفيكم سراً في أنّ هذه التعليقات أزعجتني كثيراً، ممّا اضطرني لغلق الهاتف وسرحتُ بعيداً.. تملكني الفضول لرؤية ما كتب أصدقاء زوجي فرحتُ أتصفح هاتفه وهو نائم.
«مبارك لك.. شباب ما شاء الله عليك» «ولا كأنها أربعين، تبدو في العشرين صديقي» «حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنةً.. ها ها ها..»
آلقيتُ الهاتف من يدي وهي ترتعش، ورحتُ أنظر إلى وجهي في المرآة، أتلمسهُ وأنا أمشط شعري.. إنه جميل، ما زلتُ شباب، وإن هي إلا مزاحات الفارغات والفارغين، و و .. طمأنتُ نفسي ونمتُ بهدوء.
لا أدري ما الذي أصابني، هل هو الشيطان يوسوس لي، أم أنها حقائق أجهلها.
خرج زوجي من غرفة النوم متأنقاً ببذلته الرسمية والعطر الذي لم أشمه من قبل، فما كان مني إلا أن وقفت بالباب: ما شاء الله عليك، ما هذا الجمال ولماذا؟
فاستغرب وفتح عينيه: جمال؟ ولمَ؟ غريبة طريقتك في الكلام اليوم، ألا تعرفين أن اجتماعنا كل بداية شهر؟ أتريدينني أن أخرج بملابس كل يوم وأنا المدير؟
خرج وهو مندهشٌ من تساؤلي، وبصراحة بدوتُ وقتها غبية جداَ.
كل يوم تزداد شكوكي، بعد أن يجد شيطاني لي حدثاً يستدعي هذا الشك.
– أراك لا تهتم بي مثل زمان، وكأننا صرنا أصدقاء، ألا تلاحظ هذا؟
– إنها الحياة الصعبة عزيزتي، وأنت ترين بعينك كيف أني أتعب ولا أرجع إلا قرب العصر.
– أريد أن تأخذني اليوم إلى الطبيب، عظامي تؤلمني.
– خذي أمك واذهبي، قد تعودت الذهاب معك فوقتها كله فراغ في فراغ.
تعدد أطبائي: طبيب العظام، والمسالك البولية، طبيب الباطنية وآخر لآلام الرأس المزمنة حتى صار لديّ كيس أدوية أتوه فيه، وهو يخرج للنادي.. وا ويلاه!
ضحك كثيراً عندما طلبت منه التسجيل في النادي والمسبح: بربك، أي نادٍ يدخلك ووزنك زاد عن الثمانين؟ وتسبحين؟ ها ها ها.. لا تخبري أحداً بهذا فيهزأ بنا.
كل يوم أتساءل: لماذا هو يتمرن دائماً؟ لماذا يحرص على برنامج للريجيم؟ لماذا لا يأكل كثيراً؟ لماذا يبتسم دائماً؟ لماذا هو أجمل من ذي قبل؟
ثمّ أن هناك أمرٌ غريب استجدّ، فهو يشتري الكثير من القمصان الحديثة والعطور الغالية، بعد أن كان يرفض هذا بدعوى الاقتصاد.
تعبتُ من شكوكي ونكرانه، فقطعتها بعد أن تأكدت أنه على علاقة مع أخرى فسهرُهُ على الهاتف بعد أن وضع له رمزاً سريّاً أمرٌ لا يخلو من الريبة.
حزمت حقيبتي وخرجت في هدوء إلى أن استقر رأسي في حضن أمي، بكيت بكاء مرا، لا أدري لماذا أحسستُ أنها تشفت في، وخاصةً عندما أصرّت إلا أن أطلق منه.. صارت تذكرني بنصائحها زمان: قلت لكِ يا فهيمة، ستشيخين وهو يجدد الشباب.
– كفاكِ أمي، كفاك بربك.
الأولاد صاروا يتوسلون كي أرجع للبيت، مؤكدين أن ما أحكيه خرافات لا أصل لها، وهو يأتينا متوسلاً لأمي أن أقابله فأرفص، وأرفض، ويرجع رأسي باكياً في حضن أمي.
مرت قرابة السنة على هذا الحال، وقلبي يتوجع يوماً بعد يوم حتى أحسست أنه تورم حزنا، يا إلهي.. هل للقلوب أن تنفجر؟
فتحتُ هاتفي، فإذا التهاني والتبريكات بعيد ميلادي الواحد والأربعين، كانت صدمةً لي، فهل نسيت؟ أم أن قلبي لعب معي لعبة التناسي؟
هربت من حضن أمي صباحاً وهي تشخر، مؤكد هي تراني في حلمها الآن عجوزاً شمطاء، وتراه شاباً يركض في المراعي بين الغزلان!
دخلتُ صالون تجميل، فلعبَ بشعري ووجهي، وحتى أني وضعت عدسات ملونة.
عرجتُ على محل هدايا وزهور، ثم محل حلويات، حملها العامل إلى البيت قبلي، واشترطت عليه أن يرتبها بنفسه.
دخلتُ فجأة؛ فبُهتّ! البيت نظيف ومرتب، الأنوار خافتة، الموسيقى التي أحبها! احتضنني والعبرة تخنقه، قلت له: لا أريد أن أبكي فقد بكيت كثيراً في حضن أمي، وأيضاً الدموع ستتلفُ المكياج.
قال لي بحنانٍ: إحساسي لا يكذبني، فقد قال لي أنك اليوم ستحضرين عيد ميلادي وستجلبين لي هدية، ولهذا تأنقتُ وألغيت كل المواعيد وانتظرتك.
قلت بدهشة: عيد ميلادك؟ أليس هو عيد ميلادنا؟!
– لا..لا.. هذا عيد ميلادي، وعيد ميلادك بعد شهرين. أم أنكِ نسيتِ أني أكبرك بشهرين يا فهيمة؟
ضحكنا كثيراً، كثيراً، وخاصة بعد أن أهداني ملابس رياضة وكارت النادي.
الله . جميلة . أسلوب سلس وقص ماتع.. أحسنت الأستاذة القديرة
إعجابLiked by 1 person