جلدت ذاتها

جلدت ذاتها

اللوحة: الفنان الصيني زهي يونغ جينغ

أيمن جبر

في المدرج الكبير بالجامعة والذي امتلأ عن آخره، جلس الطلبة ولأول مرة منفصلين، البنات إلى اليمين والأولاد إلى اليسار، كان هذا بناء على طلب البروفيسور المصري صاحب المكانة الكبيرة في جامعة هارفارد، والذي قرر أخيرا الاستقرار في مصر، فانتهزت الجامعة الفرصة للتعاقد معه لتدريس مادته لطلبة الفلسفة بكلية الآداب، وكانت هذه أول محاضرة له.

دخل القاعة وقام بتحية الطلبة الذين استقبلوه بحفاوة، نظر إلى المدرجات ليطمئن على امتلائها وترتيبها كما طلب.

البروفيسور: أعرف أن أول وأكثر تساؤل يدور بخاطركم هو؛ لماذا الدكتور الذي درَّس سنوات طويلة في جامعة هارفارد يطلب فصل البنات عن البنين في أول محاضرة له؟ 

والسبب ببساطة أنني أثناء الشرح سوف أقوم بالعديد من الاستطلاعات للرأي بينكم، ويهمني تمييز مصدر الآراء، هل هي من البنات أم البنين؟  فهذا التمييز يعطينا مؤشرات مباشرة ودروسا عملية فورية أثناء المحاضرة.

طلبت منكم الأطلاع على فيلم سينمائي قصير، خلاصته؛ شاب مستهتر وكثير العلاقات النسائية (رامي)،وكان يستريح لفتاة أخرى (منى) التي تتمتع بنفس صفاته المستهترة، وشهيرة ببعض مغامراتها مع شباب، ينوي “رامي” الزواج ويعلن توبته للناس وعزمه الاستقامة، وفي اخر لقاء بينه وبين “منى”، تشاركه الفكرة وتعرض عليه أن يتوبا ويتزوجا، فيرفض ويخبرها أنه يريد فتاة لم يمسَّها أحد قبله، ويتزوج فتاة من المدينة بينما تظل منى كما هي؛ لثقتها بأنها لو أعلنت توبتها واستقامتها مثل “رامي” فلن يتقبلها أو يصدقها أحد.

سوف أرشح طالب ليمثل شخصية “رامي”؛ من يرغب يرفع يده، ورفع بعض الشباب أيديهم واختار الدكتور واحدا، ثم طلب من البنات رفع أيديهن لاختيار من تمثل شخصية “منى”، فأحجمت كل البنات، ولم يندهش البروفيسور، ولكنه طلب منهن ذكر سبب احجامهن عن الترشح، فمن تكلمت قالت: “أخشى أن يُلصق بي هذا الإسم فيما بعد داخل  الكلية، ويستخدم كتشهير بي”، ابتسم البروفيسور لهنَّ؛ ثم ذهب إلى السبورة وكتب (الأول)، ثم التفت ووجه سؤاله للبنات: لو تقدم رامي لك أو لقريبة منك، مع العلم بأنه كعائلة ووضع مالي متميز،هل تقبلي أو يتقبله المجتمع والفتيات والأسر ويزوجوه بناتهم؟

رفعت أغلب البنات أيديهن كتعبير عن الموافقة على قبوله.

طلب البروفيسور من بعض الموافقات والرافضات ذكر السبب.

البنات الموافقات “الأغلبية”: لقد تاب وسيكون شخصا صالحا وسوف يستفيد من تجاربه الماضية في الاستقامة لأنه ذاق الحرام وتعرض ضميره لتجربة قوية، ولا يجب أن نقف في طريق التائب.

البنات الرافضات “الأقلية”: ربما تتغلب عليه حياته السابقة ويعود إليها، وفي تلك الحالة سوف يمثل الأمر صدمة للبنت، وبهذا فهذه مغامرة غير مأمونة.

وجه البروفيسور نفس السؤال للأولاد، فكانت الموافقة من الأغلبية، ولكن اندهش الجميع عندما لم يطلب الاستماع إلى منطقهم كما فعل مع البنات، فلا شك أنه طالما غفر البنات فحتما سوف يغفر الشباب لأنفسهم.

قال البروفيسور للجميع:

خلاصة هذا الاستطلاع أنَّ أغلبكم من البنين والبنات وافقوا، وأن الرفض كان لاحتمال الانتكاس، وهذا يعني أنَّ جميعكم غفر له وقَبِل توبته ولا أحد ينكر على من قَبِلت الزواج منه.

والآن سوف أوجه السؤال الثاني وسأبدأ أيضا بالبنات: لو افترضنا أن الشخصية في السؤال الأول أمرأة وهي “منى”، وسواء كان انحرافها بضغط من الظروف أو نتيجة خلل أخلاقي، لو تابت نفس توبة “رامي” وعزمت على الاستقامة، هل تُزوِّجوها أخاكم؟ هل تُدخلونها بيتكم وتختلطون بها؟

رفض أغلب البنات تزويجها! وأيضا رفضن الاختلاط بها! فهي خطرة على الشباب في كلتا الحالتين، بينما وافقت فتاتان فقط.

قام البروفيسور بانتخاب من يعبر عن سبب الرفض والقبول.

 البنات الرافضات “الأغلبية”: السبب هو أن البنت تُلام أكثر من الولد في التفريط في نفسها، وأن زواجها من الأخ سوف يُلَطِّخ سمعته، لأن المجتمع لن يغفر سيرتها السابقة، وأن الموافقة على الزواج منها وإن كان مبررا أخلاقيا وإنسانيا إلا أنه يُعرِّض الزوج والعائلة لانتقاد لا طاقة لأحد به، ويكسر العين ويجلب العار ويُطأطئ رأس الجميع.

البنات الموفقات “الأقلية النادرة”: البنت مثل الولد، فلماذا التفريق؟ ولكن مع ذلك اعترفن بأنَّه رغم تعاطفهن مع البنت وإيمانهن العقلي بالمساواة بين البنت والولد؛ إلا أن الأمر شديد الصعوبة، وأقررن بأن الموافقة هو قرار مثالي وخيالي وبعيد عن الواقع وسوف يصبح اتخاذه شديد الصعوبة وأقرب للمستحيل.

ثم اتجه البروفيسور إلى الأولاد بالسؤال، فرفض الجميع تماما.. هنا انتخب البروفيسور من الأولاد من يعلل رفضه.

الأغلبية المطلقة الرافضة: في تلك الحالة سوف يسير الزوج ويبرز من رأسه قرون أمام الناس، وهذا التعبير العامي للزوج الذي يفرط في عِرضه، كيف يقبل من تقلبت بين أحضان الرجال لتنتهي إليه كزوجة؟ وكيف يتحمل في كل خطوة يخطوها أن يقابل في كل مكان ومناسبة أشخاص كانت لهم ذكريات مع زوجته؟ سوف يكون مطعونا في رجولته ومُهانا في كل ثانية تمر في حياته الزوجية، وليس هو فقط بل سوف يلطخ سمعة عائلته بالعار أيضا.

لخص البروفيسور النتيجة إلى أنَّ الأولاد والبنات أجمعوا على فداحة ذنب البنت مقارنة بالولد، وعلى سهولة تقبل توبة الولد واستحالة تقبل توبة البنت، وأنَّ البنات قبلوا قهر وظلم بنت جنسهن واعتبروا هذا من طبائع الأمور.

ثم  توجه للسبورة وكتب .. الثاني!

ثم وجه البروفيسور للجميع السؤال التالي؛ لو كنت شابا مقبل على الزواج وكان الخيار بين المطلقة والأرملة والبِكر، ما الخيار.

فضَّلَ أغلب البنات والبنين البكر، وذكروا أنَّ التي سبق إلى حياتها وجسدها شخص آخر سوف تتراجع في سلم الاختيار، وتتقدم عليها التي لم يتسرب إلى ذاكرتها وجسدها أحد.

ثم توجه البروفيسور إلى السبورة وكتب .. الثالث.

قال البروفيسور: هذا السؤال بمثابة قنطرة بين السؤال الأول والثاني؛ لنفترض أن شابا سافر إلى أوربا أو أمريكا، وتعرف على بنت أجنبية ورغب في الزواج منها، ووافقت على أن تتحول لدينه، فهل من الممكن أن يقبل وخاصة أن هذا الزواج يتيح له فرصة الجنسية الذهبية؟

لم يعترض أغلب البنات والبنين دون أن ينتبهوا للحيلة، وهنا فاجأهم البروفيسور بتساؤل: ألا تعلمون جميعا أن البنت الأوربية والأمريكية قد أتيح لها الالتقاء الجسدي بعدد لا حد له، فالعلاقات حرة والحرية الجسدية مطلقة، وبهذا قد تكون تلك الفتاة التي غيرت دينها تتجاوز بكثير “منى” التي رفضتم زواجها وصحبتها!

ثم ذهب إلى السبورة ليكتب .. الرابع

ثم جلس على مقعده وظل ينظر إليهم والطلاب بتبادلون نظرات الدهشة ويتلاومون ويحاولون استيعاب فخ التناقض الذي أوقعهم فيه.

ثم وقف البروفيسور وقال: الفرق هو المجتمع.. الإله المُسْتتر الذي نعبده حقا ولا نصلي له. احذروا التناقض وازدواج المعايير وتطفيف الموازين. احذروا سحر المجتمع وضلاله. ألا تعلمون أن القيم العليا لا تختلف باختلاف الزمان والمكان والظرف.. الذهب يوزن ويعاير في بلادنا وبلاد الغرب وبلاد الصين بنفس المعيار. لا بد من البحث عن المسطرة التي نقيس بها القيم.

يا بنات.. لقد سجلت لكم على السبورة أربع عثرات دخلتن بهن  فخ ظلم أنفسكن .. لقد قسوتن على جنسكن.

يا بنت.. اعرفي قضيتك وحقوقك وقيمتك وأحذري الهزيمة الداخلية.. 

وإلى اللقاء في المحاضرة القادمة.

رأي واحد على “جلدت ذاتها

  1. ماشاء الله.. تطور هام وممتاز.. ظهور الصورة بجانب القصة.. شكرا لإدارة الحانة ونبلائها. لهم كل التحية

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s