ياسر جاد
أن تكون الصياغة من خلال عناصر أربع فهذا من المسلمات والتأصيل لمفردات التكوين. ولكن أن تزيد لتكون نتاج خمسة عناصر فهنا تقع المغايرة والاستثناء. فتلك العناصر الاربعة الرئيسية هي التي تشتق منها جملة التكوينات على اختلاف تفريعاتها. فالماء والتراب والنار والهواء هم أصل الاشياء والموجودات. ومنها تشتق المواد والتكوينات. والتعامل مع عناصر الطبيعة الاربعة أمر من المسلمات. وضرورة واجبة لتخليق المفردات المكونة لجملة الاشياء. وخروج عنصر منها عن تلك المعادلة يؤدى إلى فشل التكوين. حتى وإن كان وجود واحد منها بشكل يرادف مفهوم العناصر المساعدة. فنسبة وجود كل منها في التكوين ضرورة حتى وأن كانت بنسبة تضاهى النزر اليسير. ولا أدل من ذلك على تكوين الانسان ذاته. وقد أتت النصوص السماوية بذلك الخبر جملة. وإن لم تأتى به تفصيلا. وقد استطاعت جملة العلوم إثبات ذلك. فالصياغة من تلك العناصر الاربعة من المسلمات ويمارسه كافة البشر سواء بوعي وإدراك أو بعدم.. أما الصياغة من عناصر خمسة فهذا ما أطلق عليه إن جاز تعبيري (الاستثناء في الابداع). والعنصر الخامس المضاف. وهو ما ترادفه مفاهيم عدة، كالشخصية أو الروح أو الذات أو النفس. وهو ذلك العنصر الذي يصعب علينا تحليل عناصره وتشريح مكوناته. فهو ليس بتكوين ذو جزيئات تنتمى إلى جدولة كيميائية. ولا بحيز تستطيع العين أن تدور حوله. ولا بثقل تستطيع اليد أن تحمله. وقد حار فيه البشر وجابوا كل الدروب لادراك أسواره. علهم يشفوا الغلة في إدراك ماهيته.
والاقتراب من تجربة الرائع والمبدع الكبير الفنان محمد مندور. واحدة من المجازفات إذا لم نتناولها بذلك الحرص وتلك الحساسية التي نتعامل بها مع هؤلاء القمم التي أثرت وتثرى الفن المصرى على مر تاريخه. والتى تثبت أن جينات الابداع تسرى في الدم المصرى وتتخلله وأبدا لن تغادره. وإن كان تناول تلك التجربة قد يتسم أيضا بتلك الصعوبة في إيجاد مدخل لقراءتها قراءة تليق وتتناسب مع منجزها وما عانته من صعاب وعقبات عديدة. تكفي واحدة منها لقتل أي إبداع أو طموح أو تطلع. فتجربة مثل تجربة (الصائغ) محمد مندور والتي يتجاوز عمرها الخمسون عاما. لهي واحدة من النماذج التي تدعو إلى الفخر والتقدير والاحترام. وهي ليست قاصرة على منجز يتشكل من عناصر الطبيعة الأربعة. بل هي رحلة في درب مظلم حالك. لطفل يحمل في يده قنديلا يتمثل في تلك الكرامة الممزوجة بالتمرد على كل تلك الاشكال من الامتهان والتي كان يتعرض لها الصبية الذين يعملون في الفواخير. فهي بذرة ذاته التي لفحتها نيران الحرفة ودروبها لتشكل عنصره الخامس والذي شكل مع عناصر الطبيعة الاربعة والثى يعد فن الخزف أقرب أشكال أمثلتها. شكلت ذاته ونفسه وعنصره الخامس. ذلك العنصر الذي أحدث لدية المغايرة والاستثناء هو ومن على شاكلته من المبدعين الافذاذ.
ففى أحد الاركان يقف الصبي محمد مندور ابن الثامنة ليرصد في دهشة براعة هذا الرجل الكفيف (سيد زيدان) وهو يشكل على الدولاب تلك الآنية. وكأنه يستطرد في نفسه قائلا (هل أستطيع يوما أن أدير هذا القرص لاحول تلك الكرة الصماء من الطين إلى ذلك الشكل الرشيق موجود ذلك كهذا الكفيف فاقد البصر) لقد أدرك في ذلك الحين وفى تلك السن الصغيرة معنى التحدى.. ومن طرائف تلك الفترة الاولى من حياته ومشواره الطويل داخل دولة الفواخير التي ينتمى إليها. كان يحلم بذلك اليوم الذي يجلس فيه على الدولاب ليخرج تلك الأشكال المختلفة من اﻵنية. وكان حينها ضمن هؤلاء الصبية المساعدين والذين تمتلئ بهم الفواخير. فكان يستيقظ فجرا ليذهب إلى تلك الفاخورة التي يعمل بها قبل حضور الجميع بوقت كاف. ليقتطع تلك الكتلة من الطين ويجلس على أحد الدواليب محاولا محاكاة ما يراه ويلاحظه من مهارة الحرفيين. ويغادر قبل دقائق من حضور العمال حتى لا يراه أحد. ولاحظ الجميع بأن هناك من يعبث بأحد الدواليب قبل قدومهم. فقاموا بمراقبة الفاخورة ليمسكوا به متلبسا بعبثه في خامهم ودواليبهم. ويسأله صاحب الفاخورة عن سبب فعله. فأخبره أنه يريد العمل على الدولاب كالحرفيين وليس مشا ركة الصبية عملهم المعهود. وعندما سأله عن السبب. فأخبره محمد مندور بأنه لا يطيق إهانات هؤلاء الحرفيين للصبية. ويريد أن يجيد صنعة الدولاب ليهرب من تنكيلهم بالصبية. فأعجب الرجل به وأخبره أنه سيدعه يجيد ما يريد ويعفيه مما لا يحب. فهكذا كانت شخصيته التي تبدو في ظاهرها هادئة ولكنها في داخلها عاصفة وتحمل توجها نحو هدف يشعر به ولكنه يجهل ماهيته في ذلك السن المبكر. فهو لا يستطيع ترك العمل، ولا يقبل إهانة الحرفيين. ولا يقوى في هذه السن المبكرة على زجرهم وردع المتجبر عليه منهم. فمسئوليته تجاه أسرته تطوق عنقه. فهو سند أمه والعائل الوحيد لتلك الاسرة بعد رحيل أباه المبكر. ولكنه أبدا لم يكن يستسلم لهم وكان دائم التمرد على المتجاوز منهم. ووجد في كتلة الطين وسيلة للانتقام منهم. فكان يشكل لهم تماثيل على هيئة حيوانات خرافية ورؤوس ما يشبه الديناصورات كنوع من أنواع الوصم بالوحشية، ويتركها لتجف تمهيدا لحرقها…
وكانت تلك التماثيل الخرافية هي بوابة عبوره إلى بر أستاذه الفنان الكبير الراحل المثال محمد هجرس. والذي منحه تأشيرة الدخول لعالم الفن التشكيلي بفخاره وخزفه وفق معايير مختلفة عن معايير الفواخير ومفاهيم حرفييها. والذي لعب دورا محوريا ورئيسيا في مشوار الصائغ الفنان محمد مندور. فالمستمع لمحمد مندور في سرده المتقطع عن مشواره يلحظ أن هناك بعض الشخصيات التي يضع كلمة (أستاذي) قبل أسمائهم وهم الإنسان والفنان الكبير الراحل محمد هجرس. وساحر الأواني والقامة الفنية الكبيرة الراحل سعيد الصدر. والفنان والمصور الاستاذ وليم إسحاق وهم من أيقونات الفن التشكيلي المصري الحديث. لما لكل منهم من منزلة في نفس الصائغ محمد مندور. وما لهم من تأثير على تشكيله الذهني وإبداعي وإن كانت علاقته بالفنان الكبير سعيد الصدر جاءت متأخرة عن صلته الوثيقة بالفنان الكبير محمد هجرس. فعلاقته بالفنان الكبير الراحل محمد هجرس. أتت علاقة قدرية وقتها له القدر ليكافأه على صدقه وإخلاصه ومثابرته في ملاحقة تلك المهنة بذلك الدأب. فكان لقائه بالأستاذ هجرس في عام 1966 في إحدى الفواخير التي كان كلاهما يذهب إليها لحرق أعماله. وقد لفت انتباه الأستاذ تلك الاعمال النحتية والتى حملت مغايرة لم يعهدها في أهل الحرفة من الفنيين (الصنايعية). وهى نفس تلك النماذج التي ظهرت فيما بعد في الفيلم التليفزيوني الشهير (طالع النخل)، وبدأت علاقته بهذا الفنان الكبير والذى رأى بنظرته الثاقبة فنانا داخل هذا الكيان. وتوطدت علاقته بالأستاذ هجرس والذي رأى في الصائغ محمد مندور عنصرا مكملا لفكرة تداعب عقله. فهو محترف لحرفة الخزف ولديه تلك الدراية بتقنياتها ومرحلية إنتاجها وجودته. ورأى محمد مندور في الأستاذ هجرس هدية السماء. وحامل أختام وتأشيرات الخروج من عالم الفواخير الممل إلى فضاء فن الخزف الممنهج. فالأستاذ هجرس واحدا من النحاتين والفنانين ذوى الشهرة في الفواخير والثى يلجأ إليها لحرق أعماله وتصليب نماذجه الطينية.
ويأتي العام 1967 حاملا معه بداية تلك المرحلة النوعية في حياة الفنان الكبير محمد مندور. وهو ذلك العام الذي قرر فيه الأستاذ هجرس أن ينتقل إلى مرسم حلوان في تلك الفيلا الواقعة بناصية شارعي مصطفى فهمى وشارع رايل. وكان يشاركه في العمل فيه الاستاذ مندور والاستاذة صفية. وكان هذا المرسم بمثابة كلية الفنون الخاصة بالأستاذ مندور. حيث كان هذا المرسم بمثابة ملتقى لكثير من الفنانين والمبدعين. ولكن يبقى لثلاث شخصيات من رواده ومستخدميه تلك المكانة في نفس الأستاذ مندور. وهم أستاذه الفنان محمد هجرس. والأستاذة صفية. والاستاذ عمر الفاروق. وكانوا ثلاثتهم بمثابة مدرسي الفنون بالنسبة إليه. فعمدوا إلى نقل معرفتهم الاكاديمية له. من خلال اطلاعه على بعض الجوانب من تاريخ الفن. وكذلك في تعريفه بقوانين الكتلة وأصول الشكل ودفعه نحو الخروج من قولبة الحرفة وجمود تقنيتها. وإرساء مفهوم التجريب والتجريد لديه. وربما لعب شغفه بالتحصيل هذا الدور المحوري في وجوده داخل ذلك التجمع وتلك المجموعة المثقفة ليكون واحدا منهم ويشاركهم جانبا من مشوارهم الفنى. وكان الاستاذ هجرس يصطحب معه الفنان محمد مندور في جولاته لزيارة المعارض بانتظام. وكانوا دائما ما يمرون لزيارة الفنان وليم إسحاق والذي كان يقطن في الجهة المقابلة للجامعة الامريكية بوسط القاهرة وكان ذلك في العام 1968. وقد لعب الاستاذ وليم إسحاق واحدا من أهم الادوار في ثقافة محمد مندور الفنية. بل وتطرق معه إلى شروحات عن فلسفة الفن والتشكيل والتاريخ الفنى بشكل عام. وقد وجد فيه الصائغ محمد مندور العوض له عن الاستاذ هجرس الذي كان بمثابة أبيه الروحى وأستاذه. والذي أعتقل على خلفية سياسية في تلك الفترة من نهاية السيتينيات.
وتحمل ذكرى اعتقال الاستاذ هجرس مفارقة غاية في الدراما والغرابة. فقد أسند للأستاذ هجرس قبل اعتقاله تأسيس مركز فني في (ليمان طره الشهير). وكان معه الفنان الكبير والنحات السكندرى الدكتور أحمد سطوحي. وبالطبع رافقهما الفنان محمد مندور. والذي تولى الجانب التقني الخاص بتأسيس ورشة الخزف التابعة للمركز والثى ضمت عددا من الافران. ولكن يشاء القدر أن يتم اعتقال الاستاذ هجرس في تلك الفترة ويكون اعتقاله في نفس ليمان طرة الذي أسس فيه مركز النحت والخزف. وينقطع الاستاذ مندور عن الذهاب إلى المركز مع اعتقال أستاذه. وفى تلك الفترة يتم تجنيده ويشاء القدر أن يكون في مركز تدريب طرة.. ويتصادف مرور أحد الضباط من السجن ليلمح الأستاذ مندور ويبلغ مأمور السجن. والذى أرسل في طلبه ليتمم إلحاقه بقوة الحراسة بالسجن. ليشرف على تشغيل ذلك المركز من جديد. ليكون بجانب أستاذه وأبيه الروحى الاستاذ هجرس في نفس ذلك المكان الذي أسسه والذى شاءت الاقدار أن يكون محبسه. وربما يقصر المقام عن الدخول في تفصيلات أجد أهميتها البالغة في تلك التجربة المرادفة لمفهوم (الكفاح). إلا أن فترة خدمته العسكرية في ذلك المركز أتت له بمثابة منحة سماوية لتعوضه عن انقطاع أستاذه هجرس عنه فانكب على ممارسة تجاربه، وإطلاق العنان لكل رغبة لديه في التجريب. فالخامة متوفرة بكثرة والافران بمثابة أفضل تقنية في وقتها والوقت في يده. والكل يجد فيه السبب في دوران العمل في ذلك المركز. فباتت فترة الخدمة العسكرية بمثابة تجربة دسمة أتاحت له ممارسة غلفتها المعايشة.
أما علاقته بساحر الأواني الفنان الكبير سعيد الصدر. فقد بدأت في بداية الثمانينيات. أثناء مشاركته بمعرض في جمعية محبى الفنون والتى كان الاستاذ الصدر رئيسا لها. وقد فاز الاستاذ مندور بإحدى جوائزها. وهناك شاهده الاستاذ الصدر وأثنى على عمله وأدائه. وقد كان الفنان سعيد الصدر بالنسبة إلى الاستاذ مندور هو أحد النجوم الذين تمنى أن يقابله. ولم يدور في مخيلته أن يثنى يوما على أعماله. فكان هذا الثناء بمثابة دافع قوى ومحفز له على المواصلة. وأكثر ما يعتز به الاستاذ مندور في علاقته بالراحل الكبير سعيد الصدر هى تلك المناقشة التي دارت بينهما في أوائل الثمانينيات عندما دعاه إلى زيارة معرضه والذى أقامه الفنان الكبير سعيد الصدر في مجمع الفنون بالزمالك (قصر عائشة فهمى). وكانت المفاجأة الكبيرة بالنسبة لمحمد مندور عندما باغته الاستاذ الصدر بسؤاله عن رأيه في أعماله المعروضة. وهنا شعر محمد مندور بأنه قد حصل على واحدة من أهم جوائزه. وهى أن يسأله الفنان الكبير الصدر وهو ما هو في عالم التشكيل بشكل عام وفى عالم الخزف بشكل خاص. وقد شجعته نبرة صوت الصدر في أن يتكلم بحرية. وأخبره أن أفضل ما يعجبه في العرض هو كونه يشبه تلك البساطة المنيعة التي عهدها في الفن الإسلامي. فقال له الفنان الصدر. وما يعجبك أكثر في الفن الإسلامي. فقال له تلك مندور تلك الشبابيك الخاصة بأنيته وما فيها من تلقائية وعفوية وبساطة في تقنية الخامة وتقنية) الجليز. وقد أثنى الفنان الكبير سعيد الصدر على كلمات الأستاذ مندور بشكل كبير وهو ما أسعده للغاية. وتبقى تلك الحادثة البسيطة والتى تعكس تأدب مندور من الاقتراب من الاستاذ الصدر.. فقد كان الاستاذ مندور يمر من أمام مرسم الاستاذ الصدر بالفسطاط دائما. وقد لاحظ في تلك الفترة مدى تدهور صحة الاستاذ الصدر وما ألم بذراعه من جراء إصابته بنوع من الشلل. وكان يتردد في أن يعرض عليه أن يساعده في مرحليات عمله والتى تستلزم تقنية مجهدة كاستخدام الدولاب مثلا. فقام بعرض الامر على الراحل الرائع الناقد الكبير مختار العطار لما له من علاقة قوية بالأستاذ الصدر. والذي بدوره عرض الامر على الاستاذ الصدر والذى اعتذر عن قبول ذلك بكبريائه المعهود. إلا أنه طلب من الاستاذ مندور أن يجهز له فرن كهربائى صغير بالمنزل لإجراء بعض التجارب البسيطة. وعلى الفور قام الاستاذ مندور بإحضار أخيه الراحل خليل مندور لما له من دراية وخبرة في الافران الكهربائية.. وتلك الحادثة تعكس شكل العلاقة بين الاستاذ مندور بدماثة خلقه والاستاذ الكبير الفنان سعيد الصدر بكبرياء الكبار.
وبالاقتراب من تجربة الصائغ محمد مندور نجدنا أمام نوع من المنجز يحمل مزجا متجانسا، وخليطا تزاوجت مركباته بحميمية تحمل صفات الغرام. فأبدا لم يكن تزاوج مركباته تزاوجا كلاسيكيا تنتج عنه العلاقة بين عناصره. كما حملت أعماله تلك البصمة التي تدفعنا نحو إيجاد إسقاط ذو علاقة بعمارة الفكرة وبنائها مهما كانت. سواء على مستوى الارتفاع الرأسي أو على مستوى الاتساع الأفقي. أو على مستوى ما تتحلى به من رداء يمثل عنصر الجذب. فالعين تعشق عمله قبل القلب دائما. كما تتميز أعماله بإتباعها لتلك المرحليات الكلاسيكية في بناء قطعة الفخار (الخزف). فهو لا يخرج عن أصول التراتبية الخاصة ببناء الشكل، ولا يخرج أيضا عن المرحلية الكلاسيكية في بناء التقنية. ومرحلة (الدولاب الدوار) تأتى كقاسم مشترك في معظم أعماله إن لم تكن جميعها. فهو رغم سعيه للمواكبة والتجريب. فهو واحدا من حراس مملكة الفخار الكلاسيكية. ولا يرضى بتلك النزعات التي تهدف إلى أطروحات وأفكار الغزو التقنية. وربما لعبت مرحلة ممارسة الحرفة في بدايته الأولى المبكرة دورا رئيسيا في ترسيخ ذلك المفهوم لديه. كما أتت جغرافية الممارسة في الفسطاط العريقة لتأكد على تلك المفاهيم لديه. رغم خروجه منها في مرحلة مرافقته ومشاركته للفنان الكبير محمد هجرس والفنانة والمصورة الأستاذة صفية في مرسم حلوان. أو في مرحلة مركز الخزف في ليمان طره الذي كان يشرف عليه. ظلت الفسطاط ومنطقة فواخيرها. عالقة بشكل يوازى تلك الاكاسيد المتزججة على شخصيته. فالفسطاط بالنسبة إلى الصائغ محمد مندور ستظل بالنسبة إليه أرض الفخار ودولته وسلطنته. ولا ينازعها مكان آخر في نفسه.
والمنتج في تجربة محمد مندور لا يخرج عن نمطية المدرسة القديمة في مرحلياته. ولكنه يحمل تلك البصمة الخاصة به. فهو ينقسم إلى الخامة وموادها. والشكل وحلوله. والتقنية وطرق ممارستها. فالخامة في أعمال الفنان محمد مندور خامة كلاسيكية لا تخرج كثيرا عن تلك التي تم استخدامها في المدرسة القديمة، فالطينات لديه سواء حمراء او بيضاء او سوداء هى نفس تلك الطينات التقليدية والتى استخدمها الخزاف في المدرسة القديمة. والأكاسيد هى ذاتها التي عهدها الجميع. ولكن مع فارق اهتمامه المتناهي بتجهيزها والحرص على نقائها بشكل كبير.
أما الشكل فهو ذلك العنصر الذي عكس تطور فكره وتأثره بكل ما حصله من قيم صدرها له أساتذته وتعاليم فنية وثقافية صدروها له. وفلسفة تكونت بداخله من جراء إتباعه لهم. فبات ما لديه من محصلة عن تاريخ الفن وتطور الفخار فيه وتجارب الاولين من مبدعيه نصب عينيه. وكذلك رغبته في وضع قدمه وبصمته داخل هذا التاريخ الفنى الخاص فالفخار والخزف. وباتت تلك الجملة البسيطة والمنيعة في نفس الوقت والتى رددها فن الخزف الإسلامي على مر تاريخه هى بمثابة جملته المفضلة. والشكل لدى الأستاذ مندور قد حمل تلك المبالغة المستساغة والتى تجد هذا الاستحسان لدى المتلقى والذى يصل في الغالب إلى درجة الابهار بعناصر الشكل. وقد حملت الأشكال لديه وخاصة في اﻵنية حلولا غير نمطية وتحمل درجات متفاوتة بإيجابية نحو الاختلاف والتميز وتصطبغ بصبغته الخاصة. فعمارته في الشكل والتى تحمل ضخامة غير معهودة في أشكال غيره. وخاصة وأنه يمارس ذلك البناء المعمارى للشكل من قطعة واحدة فنجدنا أمام بعض الأواني التي يصل ارتفاعها إلى متر أو أكثر. وتقترب أقطار بعضها من نفس ذلك القياس. وتتسم بتلك الصرامة في الاستدارات. والتجانس والتناغم في مناطق الاتساع والتضيق لتلك الاقطار والتى يستلزم الشكل إحداثها لتحقيق التصميم. أما فيما يتعلق بحلول الفوهات والمقابض فقد عكس كلاهما عنصر شخصيته وأدائه المميز. فنجدنا أمام فوهة لا تتعدى الخمس سنتميترات لآنية يصل قطرها في نقطة ما إلى سبعين وثمانين سنتيمتر. أما المقابض فقد جاءت بمسحات حداثية غير مخلة بمفهوم الاصالة في الشكل. وتنوعت ما بين الثنائية والثلاثية والرباعية. وجاءت خادمة لجماليات الشكل وفلسفته. والشكل في جملة الصائغ محمد مندور يحمل مزجا بين الدسامة والرصانة جلال العمارة من جهة، وبين الرشاقة والانسيابية والاتزان من جهة أخرى. وأتى اتزان الشكل ليشبع عين المتلقى ويمتعه ويحدث لديه الدهشة ويضفى على العمل ثراء وقيمة.
أما التقنية فقد أتت في تجربته على مستويين. الاول: على مستوى الاداء في مرحليات التشكيل. من خبرة غير اعتيادية ومهارة في الانامل أوجدتها وصقلتها كثرة التناول وطول مدة الممارسة. والثاني: على مستوى التجريب ونتائجه المميزة والتى بدت في غاية المغايرة من خلال نتائج السطوح لديه وتميزها عن العديد غيرها من السطوح. وقد أجد من غير اللائق أن أخوض في تفصيليات خاصة بالناحية الكيميائية وعناصرها المستخدمة دون الرجوع إلى الاستاذ مندور. والذى تعجبت من لجوئه لاستخدامها. وهى عناصر بعيدة عن تلك العناصر الدارج استخدامها من قبل العديد من الخزافين. وتثبت أن بحر التجريب هو محيط مفتوح يمتلئ بكنوز لم تكتشف وآلة البحث فيه هى تلك الارادة في إيجاده من خلال الدأب والمثابرة. ولكن يبقى في تناوله لتقنيات (الجليز). تلك السمة المميزة لملامسه وما بها من نتائج للاختزال والاكسدة وغيرها من تقنيات الحريق. واعتقد أن تناول تلك المنطقة في تجربة الصائغ الفنان محمد مندور يحتاج إلى درجة من الاستفاضة والتحليل يقصر عنها هذا المقال. وتحياج لحيز من الشروح للإلمام بتفاصيلها. وأن حجب عنه أيضا ذلك الجانب الخاص بعنصر الزمن والعلاقة بينه وبين عنصرى النار والهواء وما لهذه العلاقة من تأثير هام في إحداث نتائجه. وكذلك هذا الجانب الخاص بالمواد المساعدة سواء مواد وعناصر الانصهار أو المواد والعناصر المساعدة على عمليتى الاكسدة والاختزال.




ويبقى وقوفنا أمام تجربة الفنان الكبير والمكافح محمد مندور هو وقوف الاحترام والتقدير لواحدة من نماذج التجارب التي تسعى بقوة وجدية للحفاظ على فن الخزف الكلاسيكى بشكل عام. والخزف الإسلامي بشكل خاص. وتتخذ من الاصالة مرجعية لها بتناول ذو مسحات حداثية ذات علاقة وتأثير في الحلول الخاصة بالشكل والتقنية. كما نجد في شخصه ذلك الهم بقضية الحفاظ على كلاسيكية التقنية، سواء من خلال طريقة العمل والأداء. أو من خلال تأريخه هو وصديقه الحاج رمضان صوان. لتاريخ الفسطاط والعائلات التي عملت في المهنة وكذلك الاسطاوات الذين تخصصوا في كل امتهان مرحليات بعينها داخل عملية إنتاجية الفخار بشكل عام خلال ال200 عام الماضية وقد أعدوا إحصاء بذلك ترد صفحات منه في هذا المقال.
ويبقى لي الاعتزاز بتناولي قراءة تلك التجربة الدسمة والهامة في تاريخ فن الخزف المعاصر. والثى أجد أنها في حاجة إلى عشرات الصفحات لرصدها والوقوف على محطات هامة فيها. فمحمد مندور أبدا لم يكن منذ نعومة أضافره وطفولته المجهدة مجرد ممتهن لمهنة الفخار. بل ولد بتركيبة فنان ذو طموح وفكر ورؤيا مثلو معا عنصرا خامسا أضافه لتلك العناصر الطبيعية الاربعة. فصارت صياغة أنيته صياغة من عناصر خمسة. وصار محمد مندور يساوي الصائغ.