بوح على شرفات المساء

بوح على شرفات المساء

اللوحة: الفنان الدنماركي فالديمار إيرمينجير بعنوان (في شهر العسل)

خالد جهاد

أنا خائفة.. 

وكانت تلك بداية تهاوي الأقنعة ولو لبرهةٍ من الوقت، فلا يمكن لأحدنا أن يكون مرئياً من خلف قناع تماماً كما لا يغتسل أحدنا وهو يرتدي ثيابه، هي لحظاتٌ صادقة شفافة عارية تلمع في سماواتنا كالشهب للحظات، فإما أن نحكيها بتجردٍ أو نلتزم الصمت.. 

كانا يتحدثان بانسيابية ودون خوف، يقفان في المساء على شرفةٍ تطل على شارع ٍ جانبي، تمر به السيارات نادراً، ولا صوت فيه سوى مواء القطط أو همسات العابرين أحياناً، كأنهما في جلسةٍ مع الطبيب النفسي، فقالت أن الرجال محظوظون، فهم لا يبكون ولا يخافون ولا تعني لهم المرايا شيئاً، ولا يحتاجون إلى أحدٍ بجوارهم.. 

ابتسم لكلماتها وسألها.. من قال ذلك؟

النساء في بلادنا مقيّداتٌ بمظاهرهن وسلوكياتهن، فيما الرجل مكبل بمشاعره، لا أحد يعلم ما نشعر لأننا لا نبوح ونخاف أن نبوح، لأننا.. رجال.. 

ليس الجميع كذلك، لكن كم مرةً رأيتِ رجلاً يبكي أو يتوسل حبيبةً أو صديقاً ألا يتركاه مع أنه يود ذلك بشدة؟ كم مرةً أخبركِ رجلٌ أنه يشعر بالعجز كلما شعر أنه لا يستطيع تلبية احتياجات أطفاله؟ كم مرةً أخبرك رجلٌ أنه يشعر بالضعف والخوف في هذا العالم باحثاً عن الأمان الذي تفتقدينه مثلك تماماً؟ وأنه كثيراً ما تمنى أن تتأخر الشمس في وصولها كي لا يضطر إلى مواجهة الحياة من جديد في يومٍ صعب ٍ آخر؟ كم مرةً أخبرك رجلٌ أنه ينظر في المرآة سراً يتأمل ملامحه التي عبث بها الزمن؟ كم مرةً أخبرك رجلٌ أنه رغم حبه لشعره الأبيض إلا أن بداخله حزناً عميقاً بسببه؟ كم مرةً أخبرك رجلٌ أنه كثيراً ما تمنى أن يجد من يحدثه في ساعات الصباح الأولى؟ وكم مرة ً أخبرك رجلٌ عن توقه للحب الذي تتوقين له لأنه أيضاً إنسان؟ كم مرةً أخبرك رجلٌ بعيوبه وشعوره بالغيرة من الغير؟ كم مرةً أخبرك رجلٌ أنه يعرف أنه ليس بطلاً أو مثالياً أو جذاباً أو عظيماً أو مبدعاً أو مثقفاً؟ كم مرةً أخبرك رجلٌ أنه رُفِض من امرأة أو خانته امرأة؟ كم مرةً أخبرك رجلٌ أنه يشعر بالإحباط والاكتئاب، وكم مرةً أخبرك أن الانتحار كانت فكرته المفضلة فيما يتراقص الكثيرون من حوله؟ كم مرةً أخبرك رجلٌ أن كلماتٍ بلهاء مثل (العانس) و(سن اليأس) تزعجه تماماً كما تزعج النساء دون أن ينكر ذلك؟ كم مرةً أخبرك رجلٌ عن مشاعر غريبةٍ تنتابه فأحياناً يريد أن يصرخ أو يقهقه أو يغني بصوته النشاز والذي يحبه رغم نشازه أو أن يركض في الشوارع أو يلعب أو يختبأ كالأطفال؟ وأنه لا يريد أن يشبه نجوم السينما أو لاعبي كمال الأجسام أو أن يكون فاحش الثراء ليجد الإنسانة التي يتمناها؟

سألته بنبرةٍ هادئةٍ حزينة وهي تحدق فيه بدهشة.. أتحملون كل هذا البركان في داخلكم ولا تبوحون، لماذا؟

فأجاب.. لأننا رجال..

سألت.. وما معنى ذلك، أيعني أن تموت وأنت على قيد الحياة؟

فأجاب.. ربما.. هكذا تفضل مجتمعاتنا.. فكلما حاولت أن تتناسي ألمك تجدين متبرعاً يذكرك به دون أن تجدي متبرعاً يخفف وقعه عليك.. 

سألها.. بم تحلمين؟

أجابت.. أنا أبحث عن رفيقٍ وصديقٍ وحبيب، يسمعني ولا يتهمني، أشاركه ويشاركني كل شيء، لا يسخر من أحلامي ويفهم مخاوفي، يفهم أنني طفلةٌ بشعرٍ أبيض، يصمم لي دميةً تشبهني، أغني معه وأكون على طبيعتي فليس هناك ما هو أقبح من التصنع، ألا يخشى كلام الناس، وألا يرفض أن نمشي سوياً على الطرقات في ساعات الليل المتأخرة، أن يستمتع معي بالقمر، أن يزرع الأزهار لي دون أن يقطفها، لأنني حديقته وعالمه، أن يقرأ معي كتاباً، أو يقرأ لي كتاباً، أن يحكي لي حكايةً قبل أن أنام إلى جواره، أن أركض في قلبه دون أن يوقفني، ويزرعني في روحه دون أن ينزعني، أن ينتظرني كما أنتظره، أن يكون معطفي وأن أكون غطائه، أن نكون أماناً لبعضنا في ليالٍ تمتلأ بالخوف، وأن يحب البوظة كثيراً، فالبوظةٌ بالنسبة لي بسمةٌ على شفاه الأيام، لا تهم نكهتها المهم أن نتشارك حبها..

ابتسم ابتسامة ً عريضة وقال.. يبدو أننا خائفان، وحيدان، حزينان، صامتان، حالمان، طفوليان.. سأطلب البوظة لكلينا.. 

رأي واحد على “بوح على شرفات المساء

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s