اللوحة: الفنان الإنجليزى كرو نيفينسون
د. حمدي سليمان

عاشت الإسماعيلية هزيمة يونيه وما بعدها سنوات أليمة وموحشة.. وعظيمة، فقد شهدت الفترة من 67 إلى 73 أصعب أيام في تاريخها، حيث واجهت كافة ألوان المخاطر من الدمار والموت، وتحملت مسؤولية الدفاع عن الوطن ومواجهة عدو غاشم، فلم يكن تحمل شعبها الأهوال فى المعارك سهلاً أو هيناً، فقد استخدم العدو الإسرائيلي فى عدوانه سياسة تهديد وإرهاب المدينة ردا على العمليات البطولية التي كان يقوم بها الجيش المصري، ومع ذلك كان لدي تلك المدينة شجاعة وصمود وإصرار على المقاومة والمواجهة، مع ما كان يشعر به أهلها من أحزان وآلام مضنية، لكنهم كانوا قادرون على حماية مدينتهم والدفاع عنها وعن وطنهم. رجـال أبطال قدموا لنا ملحمة عظيمة، قاوموا وحاربوا، عاشوا وماتوا، مـن أجل الأرض والكرامة والشرف. وكان فتحي رزق واحد من هؤلاء الأبطال الأوفياء الذين لم يغادروا المدينة رغم قسوة الظروف وخطورتها، كان مقاتلا شجاعا بالبندقية والقلم. بقى ليسجل لنا أصعب وأمجد أيام في تاريخ تلك المدينة، أيام غير عادية عاشها على امتداد اكثر من سبع سنوات كان البطل فيها أرض المعركة التي شهدت بطولات فذة ومواقف إنسانية خالدة، والحقيقة أن دور فتحي رزق لم يتوقف عند الراوي العليم في ملحمة الصمود والتصدي التي عاشها شعب منطقة القناة طوال سنوات ما بعد تاهزيمة وحتى انتصار اكتوبر، بل كان واحداً من صناع هذه الملحمة، يد تحمل القلم والأخرى تحمل السلاح، يبعث رسائله اليومية عن الحرب إلى جريدته (أخبار اليوم)، في الوقت الذي يسعف فيه المصابين، ويحمل الجرحى ويرفع الأنقاض، يصطف مع أفراد المقاومة للدفاع عن الأرض والكرامة، تختلط الأدوار وتأتي عليه لحظات لا يعرف فيها ما يجب عليه فعله بالتحديد، حتى يطلب منه القائد العسكري أن يكتفي بدور المسجل والراصد للأحداث، وهو دور بطولي لا يقل عن دور الجنود الشرفاء، إلا أنه يرفض ويصر على حمل السلاح، وإدراجه ضمن أفراد المقاومة الشعبية، فالكوارث تتفاقم، والأمور من سيء إلى أسوأ، وما يحدث على أرض الواقع لا يعطي فرصة لرفاهية الاختيار، لذا كان يقول في نفسه كيف لي أن أكتفي بالكتابة وأنا حياتي مهددة، كيف والأهل والأصدقاء يتساقطون من حولي في كل لحظة، إنها الحرب فاتركوني لقدري يا سادة، واذهبوا لقدركم، فنحن جمعيا في خندق واحد، لا فرق بين صحفي وجندي ولا بين خفير وقائد عسكري، الموت يتربص بالجميع، الطائرات ترعبنا وتفرقنا، ودفء المخابئ يجمعنا ويلهب مشاعر المقاومة فينا، نولد من جديد بعد كل غارة، نخرج للشوارع، نطبطب على البيوت بأعيننا، نمسح دموع الأمهات والأطفال، ونتوعد العدو الغاشم بالرد والمقاومة.
هي صباحات منطفئة وحزينة وساكنة، ومساءات مضاءة بالقذائف، صارخة بأصوات المدافع والطائرات، هم على الضفة الأخرى المغتصبة يحاولون إرهابنا عبر رسائل عسكرية قذرة، يحرم القانون الدولي استخدامها ضد المدنيين، ونحن هنا على الضفة الغربية نعرف أن رسائلهم هي حيلة الخائف، وأن قدرنا الانتظار والمقاومة. يطالبوننا بالتسليم والرضوخ لشروطهم، فنرفض ونعلن المقاومة، يشطط غيظهم وجنونهم ويدكون بقذائفهم الشوارع والبيوت والمساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات ومحطات القطار والمصانع والمصالح الحكومية، محاولين تدمير كل شيء، إخراس كل الأصوات، إجبار كل الكائنات على الفرار إلا أننا نخرج عليهم كل يومٍ بروحٍ جديد، نلملم أشلاءنا ونعيد الحياة لما تبقى، نصنع من آلامنا وأحزاننا متاريس للتصدي، نرقص ونغنى ونحيا على هدير المدافع لنزيد جنونهم جنونًا، فهم البرابرة نعرفهم جيدا، ويعرفوننا يحفظون تاريخ حضارتنا وبطولات شعبنا ويخافون من لحظة المواجهة،وقد كانت.. وكنا لها.
يوميات من لحم ودم
نعم هي يوميات من لحم ودم، نطلعكم على بعضًا من تفاصيلها التي سجلها المبدع الرائع والمقاتل النبيل فتحي رزق، سجلها في يوميات من لحم ودم، كتبت على أضواء الفوانيس ولمبات الغاز،وعلى ضوء البطاريات والشموع في أغلب الأحيان، في المكتب وفي المنزل، داخل المخبأ، في مدينة تنتظر الدمار الشامل بين لحظة وأخرى، في الخنادق، في خط القتال الأمامي، في المصانع والمزارع عند خط النار، في القرى الأمامية المحاذية لقناة السويس، كتبت تحت القذف، كتبت على صيحات الله أكبر والنصر لنا..صامدون..صامدون.
غير أن هذه اليوميات في الواقع تعتبر رحلة غير عادية عاشها فتحي رزق وسجلها يوما بيوم أو ساعة بساعة على امتداد 2500يوم، اختلطت فيها مشاعر الضيق والحزن والغضب والإصرار العنيد، حيث قاتل شعبنا العظيم أشرف معاركه، وناضل بإرادة من حديد، وكانت أرض المعركة مسرحا لبطولات فذة، ومواقف إنسانية خالدة، تولدت تحت الخطر وتحدى الغزاة.
إنها تحكى أحداث وذكريات تلك الأيام التي بلغ فيها كفاح الشعب المصري وصموده وصلابته وإيمانه بأرضه وأبنائه حدا أسطوريا، امتد من بين الظلام الكثيف إلى خيوط الضوء الأولى، في فجر يوم مشرق.
كان رزق ممن يؤمنون بأن النصر قريب، و أنه سوف يحيا حتى يرى هذا اللحظة الرائعة، لتكتمل الملحمة على أرض الواقع.. وتترسخ في الوجدان..وعلى صفحات التاريخ،وبعد النصر وتحرير الأرض وحتى آخر أيامه كان يتمنى أن تتجلى صور هذه الملحمة في انتصارات حياتية لهذا الشعب وتحديات مستقبلية ومشروعات تنموية حقيقية، تجليات تتفجر من خلالها الطاقات الكامنة لدى أبناء هذا الوطن، مستلهمة روح التحدي وقوة الإرادة، استلهام يمتد عبر الأجيال حتى لا ننسي.
الحياة والموت وجها لوجه
ما معنى الحياة..؟ سؤال يصعب تعريفه، ربما لأن إنتاج المعنى يحتاج للكثير من الوعى والحركة والجهد والتضحية، وقدر كبير من الإنسانية، وهى قدرات لا تتوفر للكثير من البشر وإن توفرت تحتاج لفضيلة الاندهاش الواعي والقراءة المتعمقة.
لقد رأى أبناء تلك المدن بأعينهم حجم الهزيمة وشاهدوا جيشهم وهو عائد من سيناء مشتت بلا قيادة، بقايا فصائل ووحدات وفرق عسكرية ممزقة ومرهقة لا تستطيع مجرد الدفاع عن نفسها، جنودا كانوا فى حالة شديدة السوء، منكسرين ومصابين جسديا ونفسيا فلم تكن حربا بل كانت كمين رخيص يحاسب عليه كل من ساهم فيه بوطنية ساذجة أو اندفاع غير محسوب، لقد كان هؤلاء الجنود الأبرياء صيدا ثمينا لجيش العدو المنظم لذا تفنن هذا العدو في الإساءة والإذلال لهم، فقد منع عنهم المياه والطعام واعتدى عليهم وهم في حالة انسحاب معلن في طريق عودتهم من سيناء بطريقة وحشية، لقد كانت الهزيمة مرسومة بكل بشاعتها على وجوه العائدين، هزيمة تتكشف حقائقها الرهيبة كل يوم حتى هذه اللحظة ونحن في عام 2020 م نعثر على مقابر جماعية للأسرى المصريين في سيناء، عمليات قتل قذرة بالدبابات، قصص تعذيب ومهانة لا يقوم بها غير البرابرة.
يقول فتحي رزق: أن أحدا على امتداد الوطن لا يعرف الحجم الحقيقي لما حدث، حجم الهزيمة على الأفراد وحجم الخسائر العسكرية نتيجة الإهمال والتقصير وهى أمور تصل الى حد الخيانة، ولنا أن نتخيل المشهد؛ جيش فقد سلاحه وفعاليته، وعدو يلاحقه حتى منطقة القناة ويمكنه النيل منه و تدمير المنطقة بلا ثمن، فقد أصبح يحتل الضفة الشرقية، ويتمركز بأقوى وحداته ذات النيران الثقيلة الرهيبة في مواجهة المدن الرئيسية.. القنطرة غرب.. الإسماعيلية.. فايد.. السويس، وكل القرى المواجهة للساحل الغربي للقناة.
باختصار أصبح العدو على بعد خطوات قليلة، وطائراته لها السيطرة الجوية الكاملة على سماء مدن القناة وبإمكانها أن تصل الى مسافات بعيدة جدا داخل العمق المصري. وهنا وجدت مدينتنا الباسلة نفسها رهينة مصرية، وهى مسألة أكبر مما يتصوره حد، حتى العدو نفسه، أن تقع مدن القناة كلها بسكانها رهينة في يد العدو.
لقد نقل لنا فتحي رزق الحالة بأمانة شديدة، حتى أننا استشعرنا الخطر يحيط بنا أثناء القراءة وأن الواجب يحتم علينا الاندفاع نحو المعركة للقيام بأي دور، للدفاع عن الأهل والأرض، فلم يعد هناك اختيار، ولا أحد يستطيع التنبؤ بما سوف يحدث، حالة من الصمت والترقب تعترى المنطقة كلها، تأتى الأخبار من القاهرة أن عبد الناصر سوف يتنحى وأخرى عن المظاهرات الشعبية وبقاء عبد الناصر وأخبار وقرارات وردود فعل متسرعة توضح مدى ارتباك القيادة والمسئولين عن الهزيمة، محاولات لتبرئة النفس وحفظ ماء الوجه أمام الشعب أما فى منطقة القناة فالوضع مختلف، فلا صوت يعلو على صوت المقاومة، فالموت والدمار يتصدران المشهد، والعدو على الشاطئ الآخر من القناة التي حفرها أجدادنا بكثير من الدم والأرواح، لذا لم يكن من الممكن بقاء الأوضاع على ما هي عليه، أو الاكتفاء بالترقب الحذر، فلم يعد هناك شيء مأمون والمقاومة لم تعد اختيارًا بل هي السبيل الوحيد للحياة.
لقد ورث ابناء القناة شريانا غير مجرى التاريخ، وأصبح محط أطماع القوى العظمى لذا كتب على أبناء هذه المنطقة منذ اللحظة الأولى لحفر القناة أن يعيشوا في خطر يستوجب الانتباه والحذر وتقديم التضحيات المختلفة.