قبل الذهاب إلى الهاوية

قبل الذهاب إلى الهاوية

فواز خَيّو

اللوحة: الفنان العراقي سيروان باران

توفي الرئيس حافظ الأسد عام 2000 وتولى بعده الرئيس بشار. 

مع بداية المرحلة الجديدة تفاءلتْ الناس كثيرا بوعود الاصلاح، وعشنا مرحلة المخاض المفترض لانطلاق مشروع الإصلاح. 

ونشأت منتديات تناقش وضع البلد وتدعو لتأسيس حالة من الديمقراطية والعدالة وسيادة القانون، وتفعيل المحاسبة، ومنها منتدى الصناعي رياض سيف وغيره. 

وفي وقت لاحق صدر ما سمي بإعلان دمشق والذي وقعه ثمانون كاتبا ومثقفا وناشطا يدعوا للتغيير الديمقراطي، وكنتُ البعثي الوحيد الذي أعلن تأييده له. 

وأطلق رجل الأعمال أيمن عبد النور منبرا إلكترونيا مهمّا (كلنا شركاء)، وصارت تكتب فيه كل النخبة السورية التي في الداخل والخارج، عن أحلامها ورؤاها للحاضر والمستقبل، وكتبتُ فيه مرارا، خاصة القضايا التي لا يوافقون على نشرها في الجريدة. وكان أيمن عبد النور مقرّبا من أصحاب القرار. 

تم اختياري أنا وزميليّ نبيل صالح وعدنان علي، لنقدم مقترحات حول مشروع الإصلاح، وكان الدكتور عماد الشعيبي المقرّب من الرئيس ومن اللواء بهجت سليمان الذراع الأيمن للرئيس وقتها، تولىّ الاجتماع معنا مرارا، وكان ينقل اقتراحاتنا لكلا الرجلين، وكان الشعيبي مسكونا بالتفاؤل وعمل بإخلاص فعلا. 

كان ثمة جناح في السلطة معظمه مما يسمى الحرس القديم يعرقل انطلاق مشروع الإصلاح بحجج كثيرة، والسبب الأبرز الخفي أن الاصلاح سيقذفهم خارجا. وربما تداخلات خارجية لعبت دورها. 

وفي لحظة مفاجئة أغلقت المنتديات واعتقل بعض رموزها. 

في تلك الفترة تم استضافتي في برنامج الاتجاه المعاكس في محطة الجزيرة، وكان عنوان الحلقة: القائد الرمز، القائد الضرورة. 

كانت المداخلة على الهاتف طويلة ومهمّة وقد سمعها الناس والقيادة، قلت فيها:

إننا نعيش في عصر القائد الرمز، القائد الضرورة، منذ عمرو بن هند، مرورا بالحجّاج، وصولا إلى عصرنا هذا. 

لقد اعتادت الحاشية أن تنصب هالة حول القائد، حتى يصبح معها التقليل من ألقابه جريمة، فكيف من تسوّل له نفسه انتقاده؟ وقلت في النهاية: إن بعض القادة أطلقوا مشاريع إصلاحية، ولكن يبدو أن سرعة انتشار الخراب والفساد أسرع من الإصلاح. وختمت: إذا لم يحدث الإصلاح بالسرعة المطلوبة فإننا ذاهبون إلى الهاوية. 

كان ذلك قبل نهاية عام 2004، ولم يكن في كل العالم العربي ما يُعكّر السكون. كنت أحدسّ ما نحن قادمون عليه. ولم يحصل الإصلاح ووصلنا إلى أعماق الهاوية. 

وأضيف: عام 2008 على ما أذكر، كانت تأتيني منامات مرعبة، كنت أرى سيارات عسكرية تجوب شوارع دمشق وهي محملّة بالجثث، والدم يقطر منها. 

وحتى لا يتهمني أحد بالكذب أو الادعاء، فقد تحدثت وقتها أكثر من مرة عن هذه المنامات للزميلين هيثم عدرا وأمير سبور في سيارة الجريدة التي تأخذنا من عدرا، قال لي أمير وقتها: مناماتك خطيرة يا أبو الفوز. 

كنتُ مسكونا برعب ما هو آت، وكنت أصرخ وأحذّر سواء في مقالاتي أو حواراتي أو في الاجتماعات، لكن لا أحد. 

و صرتُ منبوذا من البعض. وفوق ذلك حصلت انتكاسة على صعيد التعامل مع دعاة الإصلاح؛ أوقفتُ نشاطي في الحزب ولم أعد أحضر الاجتماعات الحزبية، وحين استوقفني أحدهم طالبا مني دفع الاشتراكات الحزبية قلت له: قل لفلان: أشتري بهم حفوظات لابنتي الصغيرة أشرف من أن يذهبوا بنزينا لسيارات عبدالله الاحمر وقداح (الأمين العام المساعد والأمين القطري المساعد وقتها). 

لا يمكن لبلد أن يقف على رجليه ويتطور، أو لحزب أن يكون فاعلا حين يربخ مسؤولون وقيادات لربع قرن أو ثلاثة عقود في مواقعهم. 

***

في تلك الفترة كانت الخلافات بيني وبين عميد خولي رئيس التحرير (أبو الفنان قصي) قد وصلت حافة الانفجار، بسبب حصر الامتيازات والحوافز والبعثات في مجموعة صغيرة تحيط به، حتى سائقه كان يحظى بامتيازات أكثر مني وأنا الذي تتابع الناس الجريدة لتقرأ زاويتي. كان مردودي من الزاوية لا يكفيني قهوة للزوّار والمراجعين. 

وفي تلك الفترة استلمت مشروع بناية جمعية الصحفيين في المعظمية ككهربائي. كنت أشتغل بالمطرقة والإزميل حتى الثالثة ظهرا، ثم أذهب إلي البيت أتغدى وأكتب زاويتي وأرسلها مع السرفيس الذي يأخذ نصف أجرتها ليمررها للباب الرئيسي للجريدة. 

ما أسهل أن تكون فاسدا، ملف واحد من ملفات الفساد الدسمة التي تأتيك يثريك ويُغنيك عن كل هذا التعب.

ثمة كثيرون يؤكدون أن عميد خولي يحبّني ويدّعي أن فواز إذا تحسن وضعه المادي قد يتراجع ابداعه، وحين تفاقم الصراع بيننا حاول الاتفاق مع الزعبي الذي تربطه به علاقة قوية، وكان قد تلقى من ابنه هدية سيارة مرسيدس حديثة 190، حاول دفع الزعبي لفصلي من الوظيفة حسب إحدى المواد في القانون التي تخوّل رئيس الحكومة فصل الموظف دون ذكر الأسباب. هذه المادة وُجدت طبعا للاستخدام الأمني، وحين علمتُ بذلك اتصلتُ بوزير القصر وقتها هيثم ضويحي الذي كانت تربطني به علاقة ود واحترام على الهاتف، وأخبرته بذلك فاتصل بعميد خولي وحذره من الإقدام على هذه الخطوة. 

والمسؤولون كانوا يعرفون المشكلة بيني وبين رئيس التحرير، ونُقلتْ إليّ توصية عبر الدكتور الشعيبي أن لا أفتح النار على عميد خولي الآن، ولكن لم أعد احتمل. 

وفي ورشة صحفية حضرها جمع غفير من الاعلاميين ووكالات الأنباء والمراسلين، وعميد خولي طبعا، قدّمتُ مداخلة مثيرة قلت فيها: حتى الماء الذي هو رمز للطهارة إذا استقرّ في موضعه فترة طويلة فإنه يتعفن، فما بالنا بالمسؤولين؟ وتحدثت عن الكثير من الممارسات في الإعلام وفي الجريدة بشكل خاص. كانت المداخلة حدثا كبيرا سيّما وأن عميد خولي كان يحظى سابقا بدعم خاص من الرئيس حافظ الأسد، وقوي موقعه في المرحلة الجديدة، وعلاقته وثيقة جدا مع عزالدين ناصر رئيس اتحاد العمال، أقوى أعضاء القيادة القطرية في حزب البعث، حيث يسهر عنده عبد الحليم خدام وكبار أعمدة الجيش والمخابرات، وتربطه صداقة وطيدة مع اللواء بهجت سليمان. رئيس الفرع الداخلي والذي برز كذراع أيمن للرئيس، وكان يشكل حكومة ويقيل حكومة. 

لا أدري إذا كان تهوّرا أو شجاعة أن أشعل المعركة ضد عميد خولي الذي يحظى بكل هذا الدعم، وبهذه الشبكة من العلاقات، وفي بلد تحكمه الهواتف أكثر ما تحكمه القوانين.. 

على أثر هذه الضجّة أزيح عميد خولي، وجاء بعده ثلاثة رؤساء تحرير لم يُغيروا شيئا، وكنت رأس الحربة في إطلاق المعركة ضدهم وتغييرهم، وكأنّ المقصود أن يقولوا: إذا اعترضتم سنأتي لكم بالأسوأ، لدرجة أن قال لي مرة أحد الزملاء: أنت تعلن المعركة على فلان الآن، فهل لديك أمل بأنه سيأتي من هو أفضل منه؟ قلت له: مع الأسف إن رهاني فقط هو أنه لا يوجد أسوأ منه. 

مع الأسف لم يأتنا أهم من عميد خولي، رغم أخطائه، واستلم لاحقا الكثير من الصبيان رئاسة التحرير في الصحف، فضاعت الصحافة ولم يعد هناك هيبة لموقع رئيس التحرير. 

ونفس قانون الثورات في المعارك المحدودة، كنتُ في واجهة المعارك والعداوات ورأس الحربة فيها، وحين يذهب رئيس التحرير يستلم أناس كانوا لا يجرؤون على النظر في وجهه، ويصبحون مسؤولين يجلسون وراء مكتب فخم على كرسي دوّار، ويأتون ليفاوضوني على ما سيمنحوني إياه مقابل عودتي للكتابة، ولولاي لما وصلوا إلى هذا الموقع. 

***

كانت أحيانا تأتيني قضايا ذات حساسية خاصة من الصعب نشرها فأحاول حلها بالهاتف، وبسبب ذلك كنت أتصل أحيانا بالناطق الرئاسي جبران كورية، ومن بعده فواز العامري، ومع أبو سليم مدير مكتب الرئيس وهيثم ضويحي وزير شؤون رئاسة الجمهورية، وكانوا يتعاملون بمنتهى الاحترام والمودة، وخاصة هيثم ضويحي الذي أقسم أكثر من مرة أني بمعزّة أخيه، ورغم كل هذا لم ألتق أو أسعى للقاء أيّ منهم، أو حاولت تجيير هذه العلاقات لمنفعة شخصية، خاصة أني على علم بأن الرئيس يتابع ما أكتب، وهم يعرفون ذلك طبعا.


حكمة على لسان الشيطان

من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s