دعاء صابر
اللوحة: الفنان الصيني زهي يونغ جينغ
إذا سألتني فسأخبرك، وإذا لم تسألنِ فقد وصلك الخبر إذن…
كنا صغارا، صغار بما يكفي ليتم خداعنا بأسهل الطرق، لكن أبي لم يكن صغيرا…
منذ وعيت على الدنيا وهناك سور يحيط ببلدتنا الصغيرة، سور غليظ طويل جدا لم نكن نعرف أبدا ما خلفه.
منذ اللحظة الأولى التي تكون لديّ فيها وعيٌ بالكلمات وأنا أعي جميع حكايات ذلك السور.
السور خلفه أرض الموتى؛ عندما نموت نصبح على الجانب الآخر منه، السور خلفه مخلوقات أسطورية تنفث اللهب، السور خلفه أرض الجن، السور خلفه صحراء ممتدة لا آخر لها، البلدة ما هي إلا أرض يابس محاطة بالمحيط من جميع الجهات لا يفصلها عنه سوى هذا السور، أما الرواية التي راقت كثيرا لرجال الدين هي أن هذا السور هو ما يفصل بيننا وبين يأجوج ومأجوج؛ فإذا تهدم السور فستقوم القيامة، بينما الرواية الأحب للناس هي الرواية التي أصبحت نهايتها أنهم يتبركون بهذا السور لسبب ما ويناجونه ليلا.
أيا كانت الرواية التي تصدقها أو لا تصدقها فالمهم هو ألا تقربه، لا تقرب السور وإلا مزقك إربا رجال الدين جنبا إلى جنب مع المتبركين والمهرطقين وواسعي الخيال.
لا أعتقد أن أمي كانت تهتم كثيرا بصحة أي من تلك الروايات، كل ما كان يهمها ألا أقترب من السور.
لكني أعلم أن أبي لم يكن يصدق، لسبب ما كان أبي هو الرجل الوحيد تقريبا الذي لا يصدق أيا من تلك الروايات التي تنتهي كلها بالإشادة بأهمية بقاء السور.
كنت أراه ليلا يحدق طويلا في السور بصمت، لا يقول شيئا أبدا، لكنني رأيت في عينيه بريقا لم أفهمه وقتها، فيمَ بعد علمت أنه بريق السخط الذي تراه في عيني أي ثائر تخونه مشاعره فتطل من عينيه، ذاك البريق الذي لا يخبو حتى يُفتَك بصاحبه.
في ليلة لا أذكر من حياتي كما أذكرها هي واليوم الذي تلاها، جذب أبي فأسه ومضى نحو السور شاردا وأنا أتبعه.. تردد كثيرا قبل أن يفعلها.
لم تكد الفأس تهوي حتى كسرت جزءًا من جدار السور.. كان السور نفسه هشا لدرجة غريبة، لا يمكن أن تتصور أبدا أن سورا بتلك الهشاشة من الممكن أن يمنع عنك بعض الرياح فضلا عن أن يحجز عنك محيطا أو يمنع عنك يأجوج ومأجوج!
صعق أبي أول الأمر.. لكن وقت التراجع قد فات، لقد حان وقت الحقيقة الآن، ولو كانت الساعة ستقوم بهدم هذا السور فقد حان موعدها إذن.
صنع فجوة ألقى منها نظرة.. تصورت أن زمنا مر عليه وهو مازال محدقا فيمَ خلف السور، تراجع أبي وغادر وقد اصفرّ وجهه، كنت قد تملكني ما يكفي من الذعر حتى أركض خلفه ولا ألقي نظرة لما يمكن أن يكون قد رآه.
في اليوم التالي وقف أبي ونادى أهل القرية جميعا ليجتمعوا عند السور، هناك علمت ما كان خلفه.
لم يكن خلف السور سوى أسوار أخرى، أسوار منفصلة يحيط كل منها بقرية أخرى تظن أن السور يحجب عنها هَولاً ما، سور بجانبه سور ولا شيء سوى أسوار منعزلة بينها مساحات فضاء.
تلك الأسوار هشة للغاية ولكنها تجيد حجب الصوت بفعالية كبيرة؛ حتى أن الفتحة الصغيرة تلك كانت مصدر ضوضاء حقيقي عندما تقترب منها.
من الذي فعل بنا ذلك؟ منذ متى ونحن على هذا الحال؟ هل هناك أحد من أهل القرية يذكر يوما لم تكن فيه تلك الأسوار موجودة؟ هل الأسوار الأخرى تحيط ببشر أيضا أم أن كل سور يمثل محمية لفصيل ما من الكائنات؟
بدلا من طرح كل تلك الأسئلة.. أيا من تلك الأسئلة؛ فضل أهل بلدتي الطريق القصيرة الموحلة التي تقودك لدارك في النهاية.. لقد أحرقوه.. ليس السور بل أبي، أحرقوه حيا ليكون عبرة.
ورفض أيّ منهم النظر خلال تلك الفتحة، وقام رئيس البلدة فأغلقها بإحكام لتتوارى كل الضوضاء التي خلفها.
الكل لم يحتمل فكرة وجود حياة ما خلف السور، الكل جبن عن طرح الأسئلة فضلا عن البحث عن إجابة، الكل بصق على الرماد المتبقي من جثة أبي.