اللوحة: الفنانة الأميركية ليلا كابوت بيري
نهلاء توفيق

موظفة بسيطة في دائرة حسابات في مؤسسةٍ ما، طيبةٌ مثابرة مواظبة في عملها خدومة، لاهي بالثرثارة ولا هي بالصامتة، الكلام من فمها كالدرر تنثره أينما تحلّ، كريمةٌ لا تمنع شيئًا عن أحد، معطاءةٌ جوَّادة بما تقدر عليه، صادقةٌ في القول وفيِّة للعهد، حافظةٌ للسر، تخجل من المديح، لا يعرِفُها الرياء، مخلصةٌ، متفانية لا تعرف الملل ولا الكلل، تعطي ولا تسأل، مكتفيةٌ حدًا يتصور معها من يعرفها أنها غنيةٌ غنية، والغنى عندها ألوان متعددة لا يعرفها غيرها.
إذا مشت تطير، وإذا سكنت تتحرك جوارحها فتنقرُ بأصابعها كل جميل على جهازها، فيعملُ عقلُها كأنه خزانُ معلوماتٍ لا ينضب ولا يخطئ، ذكيةٌ فهيمة، حكيمةٌ حليمةٌ صبورة، روحها مرحة، رائحتها ذكية نقية بدون عطر، نظراتها خجولة لا تعرف الفضول، قدُّها جميل وخصرها نحيل، تبهر الواقف قبالتها، لا هي بالطويلة ولا بالقصيرة.
عاتكة، لا تتدخل فيما لا يعنيها، عاتكة تُصلح ذاتَ البين وقد تعرض نفسها للخطر ولكنها تردد: لا بأس.. هي روح وريحان، تفيض كالماء الزلال أينما حلت.
العاملون معها لا يذكرون أنها أخطأت يومًا في معادلة، ولا صححت كلمة ولا أرجعوا لها كتابًا تعدّلُ فيه، بل هم في الأصل يعتمدون على ما تدوّنهُ ويعتبرونه المرجع الصحيح.. لا تتأخر عن دوامها، ولا تخرج قبل الكل، ولا أحد يذكر أنها أخذت إجازة حتى عند مرضها، نقيةٌ تقية، لا يعترض أحدٌ لو أغلقت الباب ربع الساعة لتصلي، فهذه عاتكة، لا تحب الغيبة والنميمة، بل تنصحُ بالحسنى فيخجلُ من تنصحه.
لا تتذمر، لا تتكلم في خصوصياتها ولا تطلب معرفة خصوصيات زملائها، هادئة محبوبة وكأنها الوردة الزهرية في المشتل بشذاها.
عاتكة وما أدراك ما عاتكة، ذاع صيتها في كل أقسام الوزارة، فامتدحها الرائح والغادي لدرجة أنها صارت تخجل من الرد على متسائل: أنتِ هي عاتكة إذن؟ فيحمر وجهها.
عاتكة أيضًا ذاع صيتها في الحيّ، طباخةٌ ماهرة، مرتبةٌ نظيفة، محبة لكل الجيران لا تتوانى عن عمل الخير، ولا تتأخر في رد أي طلب للمساعدة، يعرفها الأطفال ويحضنوها عند الرواح والمجيء، فتكون لهم الهدايا والفرح.
عاتكة تعيل أسرتها الفقيرة، تسكن في حيِّ ما، شعبيٍّ فقير، والذي تفاجأ أهله يومًا ما بدخول سيارةٍ فخمة إلى زقاقاته، نزل منها رجلٌ يبدو عليه الثراء، جميلُ الملامح أنيقٌ ببذلة، يمسكُ بيدِ ستينيةٍ ربما، أنيقةٌ بمظهرٍ وقور. يسأل عن بيت أهل عاتكة.. انطلقت الزغاريد من كلّ صوب، فكل من في الحيّ يفرح لعاتكة ويرى أن هذا الفرح من حقها وأكثر منه.
في عملها، اغتاظت النساء، وانبرين يحكين:
وجهها نُدوبُ جدريّ، سوداء شعرها مجعَّد، عرجاءُ يوم أن دهستها عجلة، ابتسامتها مقرفة فضواحكُ أسنانها تركب إحداهنّ على الأخرى، عاتكة قصيرة، عيناها فيها حَوَل، عاتكة مخبولٌ من يتزوجها.. عمرها خمس وثلاثون، هل يُعقل أن تُنجب؟ لا تعرف حتى كيف تضع المكياج! عاتكة يتزوجها المدير العام الأنيق الوسيم؟ هل جنّ؟
يتبادلن الهمسات واللمزات يتبعنها بضحكات، الحسدُ يأكلهن أكلًا فتدقُ أصابعهنّ على المكتب غيضًا وحسرات.
عاتكة في مكتبها تجلس، أصابع يدها تنقر على الحاسوب، عاتكة مازالت عاتكة.
سمعتها العطرة فاحت فانعشت كل من وصل إليه العطر.الا اللواتي لم يستطعن شم عطرها لعطرهم الرخيص .
وصف جميل لعاتكة فقد ظهرت روحها من خلال تصرفاتها
إعجابإعجاب
جميل. اسلوب متميز وموهوب . وحكي ممتع.
إعجابLiked by 1 person