هيام علي الجاويش
اللوحة: الفنان السوري طاهر البني
انتصار
صديقي..
سأروي لك الذي حدث مع انتصار.. فأنت تعرفها بلا شك، ولكن ربما تكون قد نسيتها كما نسيت الكثير.
صديقي..
في هذه الرسالة سأرفع شعار: لكل امرئٍ من اسمه نقيض، انتصار امرأة في عقدها الثالث.. تجلس انتصار على شرفة منزلها منتظرة رجلا.. ظلّ رجل لعله يأتي، وعندما تملّ قدومه، تتنقل بين الغرف الثلاث والمطبخ والحمامات متفقدة أيّ خلل.. فلعله يأتي، وعندما يُتعبها الانتظار، يأتي متأهباً مستعداً محمّلاً بكل أنواع القسوة والقهر ويخرج منتصراً، وتعود إلى شرفتها منتظرة.
انتصار، أحبته، عشقته، تولهت به، رسمته رمزاّ للرجولة، عبدته لتّتقرب إلى الله فيه، تخلت عن ذاتها من أجله.. تتذكر جيداً كيف وضعتْ يدها على فمه عندما قال لها: لا أمل, لن أصبح أباّ، ولكن بمقدورك أن تصبحي أماً، لك الخيار أن..
وها هو.. تخلى عنها من أجل أخرى ظناّ منه أنه يستحق المرتبة التي رفعته إليها.. وأخيراً.. جاء لها مخيراً: إما أن.. أو.. أو.. أو.. وإن احببت.. ولك هذه الخيارات.
فكّرت.. أهذه الخيارات كلها لها؟ حقا؟ وبعد خمسة عشر عاما من الحياة المشتركة والتضحية؟ ما كل هذا الكرم؟ ولكن يا صديقي.. من هو القائل: إن لكل أمرئ من اسمه نصيب.
حرة
صديقي..
أيقظ الصمت أنينها وملّها الضجيج، فهي لم تهدأ ولم تستطع النوم، لو أنك تدري لماذا، سأجيبك.. لأنها من الآن حرّة، خارج أسوار السجن، فارّة من سجّانها، متذكرة كل ما مر معها طيلة خمسة عشر عاماً، ومكتشفة كم كانت أيامها مملّة ومضجرة وقاسية، وفيها كمٌ من الالتزام والمسؤولية لم يسمح لها التفكير حتى بنفسها، وبالرغم من هذا كله كان هناك كمّ من الحب وروح التضحية يعطيها شعوراً بأنها سعيدة وهانئة، أما الآن وقد أصبحت خارج تلك الأسوار، مطرودة من مملكة الحب، فالغضب يشتعل فيها لأنها كانت حمقاء.
بدأت الاستيقاظ ببطء وعلى مراحل، في البدء حركت أهدابها على سؤال، ثم فتحت عينيها قليلا على سؤال يتضمن جوابه، واخيراً فتحت عينيها على مداهما على حقيقة، ولم تستطع إغماضهما بعدها.. ماذا سأل؟ وما هي الحقيقة؟ سأل: أتسعد وتُسرّ إذا رأته سعيدا؟ أجابت: لا شك هو هذا.. أما سؤاله الآخر فكان: اذا كانت لديك شمعة تضيء نصف الوقت.. ربع الوقت.. ربما ساعة في اليوم.. أو ربع ساعة، هل تطفئينها أم تحافظين عليها؟ يجب أن تداريها وتحافظي عليها أفضل من أن تبقى طوال الوقت في الظلام.. قالت: أجل هو كذلك!
أما الحقيقة فهي أنها اكتشفت خيانته وكذبه، أطفأت الشمعة، وفضلت العيش في الظلام، وتمنّت له الشقاء على أن تراه سعيداّ بين ذراعي أخرى.
ضجت.. صرخت.. لطمت وذرفت.. ناحت وتَيَبَّست.. زلزلت الأرض تحتها.. حركت النجوم مواقعها فوقها.. ما لهذه الشمس! كيف تستطيع النوم؟ وفي صباح كل يوم تستيقظ؟ ما لتلك النجوم! أما زالت اقدامها تحملها، وتقوى على الوقوف على هذا الارتفاع؟ أين هو؟ أما زال بين ذراعيها؟ هل حقاً أحبها؟ من هي؟ ما شكلها؟
ما اسمها؟ بكم لونِ تتلوّن؟ كم ذراع لها؟ كم أسلوب تتقن؟ ماذا تملك زيادة عنها؟ هل حقا أحبته؟ أم أنه كان صيدا سهلا لصيادٍ فاشل؟
دارت حول نفسها وفي نفسها، لم تلقَ أجوبةً، لم تقوَ على الاستمرار، فرّت من سجنها.. تحررت.. كيف تحررت؟ أليس هذا هو سؤالك؟ حسنا.. لقد كان هذا أشق شيء واجهته ويمكن أن تواجهه، رفضت الخيار الأول.. فكيف لها أن تتقبل أن تبقى الأخرى عشيقة؟
إنها تعيش الانكسار في كل لحظاتها ومع جميع من تعرف، على الطعام يجلسون أربعة, هي والأخرى.. وهو وعشيقته.. في المخدع ينامون أربعة, هو وهي والأخريين بينهما، أما عند البقال وعند السمان.. وفي الشارع وفي الفرن في جميع مفاصل حياتها: ألم يأتي زوجك البارحة؟ سمعنا بأنه تزوج! لا, لا لم يكن مسافرا.. لقد رآه زوجي وهو خارج من عندها، والله تستحقين الأفضل، فعلاً الرجال ما لهم أمان! الا يوجد طعام عند أهلك؟
ورفضت الخيار الثاني وهو: أن يتزوج عشيقته ويبقيها في بيتها.. الآن يذهب سراً ويعود خلسة ولا تكاد تراه فكيف لو أصبح الأمر جهاراً، ويصبح للأخرى حقوقا؟ فكيف سيكون الحال؟
ورفضت الخيار الثالث: أن يتزوج الأخرى ويسكنها في بيته – بيتهما – منعاً لكلام الناس.. تخيلاتها تتعبها وترهقها فماذا لو رأت وسمعت.
ورفضت الخيار الرابع: أن يتزوج تلك الغريبة ويسكنها في بيت آخر، أما خامس الخيارات فكان: أذا أحببتِ «الباب بيفوت جمل» نعم أحبت.. أحبت الأقل مراراً بعد جدال وصدّ وردّ ودمع وتعنت وذل وتكبر وزمن.
اتفقا.. كانا عند القاضي لاستكمال كافة الاجراءات، تتنازل عن حقوقها ويمنحها الطلاق، تمت المخالعة ولم يتم الطلاق، هو من استمهل القاضي قائلاً: سيدي القاضي هل لي بخلوة لبضعة دقائق.. وكان له ما طلب، فتلك قد تكون الفرصة الأخيرة، لإصلاح ذات البين.. في غرفة صغيرة بجوار قاعة المحكمة كانا منفردين، كانت ترتعش كعصفور صغير، وقع لتوّه في قبضة الصيّاد، خلع معطفه وألقى به على كتفيها.. كانت تشعر بكل شيء إلاّ البرد.
صديقي..
لحظات العشق الأكثر جنوناً تأتيك بغتة, لا بالفراش ولا بالمنتزهات، اللحظات الأكثر اشتعالاً هي التي لم تتهيأ لها مسبقاً لا بالحالة ولا بالزمان ولا بالمكان. كانت تتمنى – رغم كل الذي حدث وسيحدث – أن يضمها بين ذراعيه، وأن تلقي برأسها على كتفه لينفض عنها غبار الانكسار، وبعدها ليذهب حيث يشاء. مرةٌ واحدةٌ, ضمة واحدة فقط.. وليعتبر الضمة أتعاب نهاية الخدمة.. هو وحده، ووحده فقط من يستطيع أن ينفض عنها غبار الانكسار. قليلٌ من الوقت مضى.. نظر إلى ساعته ثم إليها متململاً.. فنظرت إليه مستفسرة، كان متلهفاً لقول ما قال.. لم تعد تريد ضمته، فهي تكره رائحة عفن عطر الأخرى على جسده.
لا يوم يشبه يومها هذا.. فقد طوت شراع الحلم في لجة العاصفة.. كثيرةٌ هي أزماتها معه ذاك الذي قاسمها الحياة, حلّوها ومرّها، لكن في كلّ مرّة كان هناك ثمة أملٍ وحلمٍ، أما من الآن فصاعداً عليها أن تخفض سقف أمانيها وأحلامها، نزعت الخاتم قائلة: خذ، لك ما شئت بشرط واحد وهو أن أُحضرَ من البيت ما هو لي، وافق بشرط على شرطها.. وهو أن يكون ذلك برفقة أخته؛ فماذا لو أخذت ما هو ليس لها؟ وافقت طبعا.. وعادا إلى قاعة المحكمة وتخالصا.
لم تنتظر لليوم التالي, لفورها ذهبت برفقة أخته للبيت الذي كان بيتها.. دخلته كالغريب.. خَلعتْ حذاءها، ليس حرصاً على نظافة البيت، ولكن لتخبئ انكسارها تحته، فبعد الآن لن تظهره لأحد. توجهت نحو إحدى الغرف ووقفت بخجل أمام المرآة، تلك التي كانت تتزين له أمامها بدون خجلٍ وتلّمست وجهها وقالت:
جميلة أنا كأنا، شهية أنا كالخمر، جميلة أنا كسنبلة قمح، كقطرة ندى، كخيوط الشمس، شهيّة أنا كالخطيئة، عشتار أنا ولم يكن إيزيس، أنا وهو كقطبي الأرض.. ألتقينا عند خط الاستواء، وعندما ملّ الحلال.. راح يبحث عن خطيئة يشتهيها.
أشاحت بوجهها عن وجهها، ولملمت خصلات شعرها.. تحت المرآة درج صغير فتحته ووضعت ما كان فيه في كيس، وخرجت تاركةً خلفها ثيابها وزينتها.. وأيضاً سكينتها وراحة بالها وحبها، ضجيجها.. ألمها.. فرحها.. حزنها.. آه, تذكرت ماذا تركت أيضاً.. نستْ أو تناست نظراتها معلقة على وسادته، ربّما لتتجسس عليهما في خلوتهما.
لبست حذائها ودست انكسارها في الكيس, لم يكن لديها رغبة في أن يرافقها أو أن يراه أحد، خرجت وهي تبتسم, ودعت شقيقته وتجاوزت الشارع وألقت التحية على كل من رأت وهي مبتسمة.
صديقي..
أتدري ما الذي أختصه لنفسها وأخذته من كل تلك السنين؟ لقد أخذت ألبسة.. نعم ألبسة كانت قد اختصتها له, وإذا سألتني ما هي حاجتها لتلك الألبسة؟ أجيب بأنها لم تأخذها لحاجةِ, إنما أخذتها إشفاقاً وخجلاً، لقد أشفقت على نفسها من أن تشاركها أخرى في لحظات أختصها له ولنفسها، وخجلت من أن تراها الأخرى شبه عاريةٍ.. نعم صديقي تحررت.. لكنها أصبحت وحيدة.
خيارات
صديقي..
بكلمات مختصرة.. انتصار انتصرت، إنها مشيئة القدر، وبلا حول ولا قوة الا بالله، هكذا هي تقول، لكن كيف وبماذا؟ لقد فازت برجل كان يبحث عن امرأة، وهي كانت تنتظر زوجاً، قال: اضعك في عيني هذه أو هذه.. بمعنى يضعها ويغمض عينيه عليها، ويترك القوم جراها ويختصموا، أولم يقل المتنبي مثل هذا الكلام؟
وهو ليس بأقل من المتنبي! تسأل لماذا التهكّم؟ لابأس.. أجيبك لأن هذا الرجل إذا جازت لنا التسمية له زوجة وأولاد، ولأنه ناطح الخمسين فأرداهن قتلى جميعهن, وهو يأمل الاستمرار بتلك الهمة للتاسعة والتسعين! أو هو على حيطان الخمسين لكنه يشعر كأنه بالخامسة والعشرين، ويستطيع القفز على حيطان التاسعة والتسعين، وهو يملك بيتاً يتسع لأخرى، أو بمعنى أدق لديه غرفة شاغرة في بيته وثلاث خانات شاغرات في دفتره، فلمَ تُحرّمونَ ما أحلَّ الله؟!
كلمةٌ لانتصار: ما اقوى انتصارك يا انتصار! فلقد فضلك على أسرته، وأفرد لك مكاناً في بيته، ومكاناً في دفتره، وكلّ المكان في عينيه، ولابد أنك تتربعين وتقومين وتجلسين وتنامين وتسرحين وتمرحين في قلبه، ولكن انتبهي، فهذا إلى حين, فمن يصغّر أهله لا يمكنه أن يكون إلا صغيراً.
عفواً وعذراً، لقد اخطأنا بحقه، ونسينا أنه سيتحمل مسؤولية الأولاد بالطعام وباللباس، أما زوجته فلها خياران لا ثالث لهما: إما ان تبقى أو ترحل.. فبهذا يكون قد أعطى كل ذي حق حقه، مع الاحتفاظ لانتصار بنصرها.. وبهذا أيضاً تكون هي قد ردت عذابها وألمها لأخرى! وإن كنت صديقي تسأل عما فعلت بمحتويات الكيس؟ أجيبك: الألبسة اختصتها للأخر، أما الانكسار، فقد منحته للأخرى، وسحبت نظراتها لتضعها على وسادة الآخر طبعاً لنفس الهدف.
فيا صديقي.. ألا ترى معي أن لكل امرئ من اسمه نصيب؟ وإذا كنا قد وقفنا إلى جانبها فيما سبق، هل نستطيع أن نقف إلى جانب الأخرى ونلملم ألمها؟ وأيضا, هل سيأتي يوم تنتصر فيه الأخرى على أخرى بمشيئة الله وبلا حول ولا قوة الا بالله؟
قصة ممتلئة بالشجن. سرد رائع . أحسنت
إعجابLiked by 1 person
ما أجمل صياغتك لوجع الخيانة والخذلان…! لقد عشت بين انتصار و هزائمها التي قننها العرف والعادة..
و أنانية الذكر…… مبدعة انت
إعجابإعجاب
عزيزتي هي خيانة بحدين .
/ عشتار .. ربة الخصب وايزيس .. إله الخصب /عند السوريين القدماء.
فبقولها عشتار أنا ولم يكن ايزيس.
ندرك ومع كل اسف أن من لديهم عجز نفسي او جسدي هم الاميل للخيانة .
أسعدني رأيك
إعجابإعجاب
أسعدني مرورك …
اعتز برأيك أستاذ ايمن
إعجابإعجاب