فأر السطح

فأر السطح

اللوحة: الفنانة الإسبانية أنابيل أندروز

أيمن جبر

عندما كنت طفلا، كان أبي يُرَبِّي في سطح بيتنا طيورا مختلفة، وكان السطح عبارة عن حوائط ذات غُرَف من الطوب الخام، بينما الأبواب والنوافذ غير محكمة.

في بداية كل شهر “هِجري” حين يكون القمر مختفيا والظلام دامسا؛ كنت أصعد مع أبي إلى السطح للاستمتاع برحلة صيد، أنتظر تلك المغامرة الشهرية بشوق لذيذ؛ أمَنِّي نفسي بالمُتعة الشريرة.

نتسلل في الظلام ويحمل أبي بندقية صيد، وأمسك في يدي مصباح ليلي “كشَّاف”، ندخل الغرفة المعتمة في سكون حَذِر، أقوم بعمل مَسح بالمصباح على الحائط؛ حتى تقع دائرة الضوء على فأرٍ مختبئ ميتٍ في جِلده وملتصق بالحائط، يتجمد الفأر في مكانه ويظل مجذوبا ببصره للضوء لا يستطيع أن ينزع عينه عنه، ولو ظل الفأر ساعات لما خطر بباله أنْ يقفز مبتعدا عن مكانه، وبسهولة تنطلق رصاصة من البندقية إلى الفأر، فيسقط على الأرض مثل الطوبة محدثا صوت ارتطام معروف ولذيذ، وبهذه الطريقة يتم اصطياد شعب الفئران كله.

هاتفني صديقي وهو يصرخ بفزعٍ وألم، يريدني حالا، ذهبت إليه وحاولت تهدئته، كان كالممسوس، لا يكرر إلا جملة واحدة؛ “لا أريد أن أتزوج”، هم الذين يضغطون علي، لقد تهورت وتقدمت للفتاة كي أكون مثل الناس، الكل يسألني عن سبب تأخري في الزواج، ظللت أعلل وأؤجل حتى اندفعت لهذه الخطوة، ولكني لا أريد!. أخرجني من هذا المأزق.

قمت بمحاولات عديدة لتهدئته ولم أفلح إلا بعد أنْ تعهدت له بإنهاء هذا الأمر بنفسي، ولا أدري كيف سأفي بهذا التعهد، وخاصة أنني كنت معه بالأمس عند أهلها، وقام بطلب يدها، فطلبوا فرصة للسؤال عنه والتشاور، ووعدونا بالرد خلال أسبوع، وفي حال الموافقة سوف يأتي بأهله للتقدم بصفة رسمية.

كيف بعد ساعات قليلة أخبرهم بتراجعه عن طلبه؟ ولم يكن أمامي سوى أن أمارس أكثر المواقف حرجا في حياتي، تناولت سماعة التليفون لأعتذر لهم وأقول الكلمة المبتذلة والثقيلة؛ “كل شيء قسمة ونصيب”.. وكانت كلمة ظالمة وفي غير محلها، فنحن الذين تقدما ونحن الذين خذلناهم.

وهدأ صديقي واسترخى على مقعده ثم قال بصوت متعب

– تعبت من الناس وتطفلهم حتى لم أعد أطيق مقابلة أحد.

– لماذا؟.. أنت شخصية ودودة ويحبك الجميع

– أعاني مشاعر الفتاة الموصومة بالعار، كوكب الأرض يتساءل عن سبب عدم زواجي حتى اليوم!، في كل مرة أجلس مع أحد؛ أظل متحفزا لانطلاق السؤال القنبلة في وجهي؛ متى تتزوج؟ لماذا لم تتزوج؟ ما رأيك أن أزوجك فلانة؟ حتى أنَّ آخرهم قال لي صراحة؛ عندي لك فتاة طيبة تصلح أن تكون زوجة لك وسوف تخدمك ولا تهتم بأمور الجنس.

إلى متى سأظل في وضع دفع الاتهام بالعجز، والتهرب من التلميحات المؤلمة، والتبرير بأكاذيب وحجج متكلفة!

– هل هذا فقط الذي ألجأك لعدم الخروج؟

– لقد فكرت في الهجرة إلى مدينة أخرى ولكن لا أتوقع تغيير، فالتطفل طبع الناس في بلادنا، المكان الوحيد الذي فيه الحل هو أوربا أو أمريكا، فليس عندهم تطفل، ولكن الهجرة ليست سهلة، لا أريد الغربة.

مرت السنون وصديقي كما هو، لم يغادر حالة “فأر السطح”، عينه لا ترى سوى شيء واحد، رأيَ الناس فيه وثرثرتهم عنه، حتى وصل إلى مرحلة عمرية لم يعد يعاني من التطفل، فالسن حِجاب، ولكن ظل طوال عمره منعزلا ولم يكن له صديق سواي حتى توفي من سنوات.

ومنذ أيام ذهبت إلى إحدى الصيدليات لأشتري دواء، وحين رآني مدير الصيدلية ابتسم في وجهي ثم أخبرني أنه يعرفني، فإذا هو ابن أخت صديقي، وذَكَّرَني الشاب بأيام حين كان طفلا ويصحبه خاله لزيارتي، لمست لطفا منه وأنسا، وظل يتحدث معي عن خاله وذكرياته ثم تطرق للحديث عن حياته، قال:

– أنا أملك تلك الصيدلية، وضعي المالي ممتاز وعندي سيارة، وأتمتع بحياة طيبة، ولكني لم أتزوج، ولن أتزوج!

نظرت إليه مندهشا من مبادرته بهذه المعلومة الشجاعة، والتي ذَكَّرتني بصديقي، فلم أملك نفسي من أن أسأله.

– وكيف تعاملك مع الناس؟ المجتمع متطفل!

– لا مشكلة عندي، أنا حر، من يسألني أقول له: لا أريد وأنا حر، فإن واصل تطفله أعطيه كتفي وأهمله، رأي الناس لا يهمني، ولا أسمح لأي متطفل أن يتسلل إلى حياتي ليعكرها.

ألقيت عليه التحية وتركته وأنا سعيد بهذا الجيل الشجاع، ودار في خاطري كل ذكرياتي مع صديقي، وقفز لخاطري ضحايا آخرون، نكَّدت عليهم أقدارهم فكانت مصائد تطفل المجتمع الجاهل.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s