الصورة: زياد وفيروز – الطفل وأمه
مختارات من ديوان “صديقي الله” الذي كتبه زياد الرحباني بين عامي 1976 و1968 في عمر الثانية عشر.
الله
(1)
وقالوا يوماً: إن الله صديقي
ورحت أفتش عن صديقي
في الأحراج، بين الزهور
في الأشجار المورقة، وراء الصخور
وخافت مني العصافير وهربت
ترى صديقي كالعصافير خاف مني وهرب؟
وسألتهم: صديقي هل يخاف؟
قالوا: يخاف ألا تحبه.
وقلت: أين هو؟
وقالوا: في كل مكان
وكان المساء فسأَلتهم :
كيف تُظلم الدنيا
وصديقي ما زال يلعب في الأحراج
ولم يرجع إلى بيته ؟
فقالوا : ليس له بيت
كل البيوت بيوته ولا يسكنها
كل الأعشاش أَعشاشه ولا يسكنها
وسأَلت : أين يسكن
فقالوا : يسكن النفس
وعرفت أن صديقي
وردة لا تطال
أعلى الورود وأجملها .”
(2)
“عندما أرسلوني يوما الى المدرسة
وكنت أنتظر ساعة الرجوع
علموني هناك أن أحكي مع الله “صديقي”
علموني أن أُصلي .
ما كانت تقوله لي أُمي
قبل أن أغفو في السرير
والريح في الخارج تخرب العالم
ما كانت تقوله كان أحلى .”
“لا أريد أن أصلي إلا ما أفهمه
لا أريد أن أصلي
دعوني أصرخ
فوق الجبال الصخرية
في الوديان الساكتة
فتصرخ معي
أين أنت ؟
دعوني أخبر الشجر
قصة صديقي
هذه هي صلاتي .”
(3)
“إن لم أكن فرِحاً
لا أستطيع أن أصلّي
ما مِن مرةٍ صلّيتُ
إلا وفي قلبي
عصفورٌ يلعب
وغصنٌ يلوّح .”
(4)
“اخترتُ يا ربّي اسماً مغايراً
حتى إذا ندهتني
صرختُ وحدي: نعم
وما ظننتُ النداءَ لغيري.”
(5)
“ألا جئتَ يا الله ؟
تأتي في الليل
وتذهب قبل الصباح
ألا جئت نسهر ؟”
(6)
“لا أحسدك
على معرفتك
مصير كل منا
لأنك قد تبكي على مصير حزين
بينما صاحبه سهران يضحك
وتعرف الفرح قبل وقوعه
فلا ترى مثلنا
لذة المفاجأة”
(7)
“أخاف أن تهرب ثانية يا الله
لأنك اذا غبت
وعدت
ترى الأسلحة معدة
وموجهة اليك”
(8)
“آتيكَ كلَّ مساءٍ أَعتذر
إنْ ضجرتَ مني ،
سآتي غداً بالناي وبالأوتار
سآتي كلَّ يوم بآلة
وأُغنّيك خطاياي.”
(9)
“أتحدّاك بالخطيئة
تتحدّاني بالحب”
(10)
“أحببتك أكثر مما علموني في الصلاة
أنا ألف مرة يخطر ببالي
أن أناديك بصوت بسيط:
أين أنت يا ربي ؟”
(11)
“أَشرعةُ آلامِنا
إليكَ سائرة
وأنتَ حيثُ اللقاءُ
فلا تحزنْ
كلَّما ساقتِ الرياحُ
.أَشرعتَنا إلى غيرك”
(12)
“ﻻ ﺃﺣﺴﺪُﻙَ
ﻋﻠﻰ ﻣﻌﺮﻓﺘﻚ
ﻣﺼﻴﺮَ ﻛﻞٍّ ﻣﻨّﺎ
ﻷﻧﻚ ﻗﺪ ﺗﺒﻜﻲ ﻋﻠﻰ ﻣﺼﻴﺮٍ ﺣﺰﻳﻦ
ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺻﺎﺣﺒُﻪُ ﺳﻬﺮﺍﻥ ﻳﻀﺤﻚ
ﻭﺗﻌﺮﻑُ ﺍﻟﻔﺮﺡَ ﻗﺒﻞَ ﻭﻗﻮﻋِﻪ
ﻓﻼ ﺗﺮﻯ ﻣﺜﻠَﻨﺎ
ﻟﺬّﺓ ﺍﻟﻤﻔﺎﺟﺄﺓ”
(13)
“لأنك ضحكتَ
نحن في الوجود
ضحكت يوما
فتفجرت من ضحكتك الناس والأطفال.”
أمي
(1)
“اسأل أمي:
إلى أين يأخذك هذا الشال الأبيض؟
و تقول أمي: إلى الكروم
و أعود و أسألها:
أمي هل أذهب معك؟
و تقول لي:
سنذهب معا، خذ السلة
و أنا لا فرحة لي أكبر من أن أحمل السلة
و أخذت السلة و مشينا
السماء سكرت من لونها الأزرق،
و لبست لونا رماديا
و سألت أمي: أين الكروم
قالت: هناك
و كل ما ليس هنا، يكون هناك”
(2)
“تلبس أمي فستاناً جديداً
وتسألني:
هل جميلٌ فستاني ؟
وأقولُ لها:
إنه جميلٌ جداً.
وكثيراً ما تسألني عن غيرهِ وأُجيبها
إنه جميل جداً.
ومرةً قالت أمي:
تُجيبني دائماً
حلوةٌ الفساتين فهل خجلاً ؟
قلتُ:
في دنيانا يا أمي
لا يوجد فستانٌ بشع
ما دام لكلّ فستان
واحدةٌ تُحب أن ترتديه”
(3)
“يومٌ أذهبه إلى المدرسة
أحسه سفراً يا أُمي
أحسه بعداً عنك وعن أبي
وعن شباكنا المكسور
أذهب إلى المدرسة وأغمض عيني
أقول أتى المساء
ثم افتحهما
وأرى أن الوقت لم يرحل بعد
ألف مرة أغمض عيني
وأقول أتى المساء
إلى أن يأتي
ويقرع الجرس ، فأهرب من المدرسة
وأركض على الدرب والشمس تغيب
أسبق نسيم المساء إلى بيتنا
ويلوح لي بيتنا من بعيد
وأرى أهلي يقفون أمام الباب
على السطوح
يلوحون بالمناديل آي لا أضيع عن البيت
وأنظر خلفي أرى هل المدرسة لحقتني ؟
وأصل إلى أهلي
أرتمي بين أيديهم
أغرق في أيديهم وعلى صدورهم كأنها بحار
وندخل بيتنا
نسمعه يغني فرحاً لعودتي من سفري
وأسأل أُمي :
أُمي لماذا أرحل إلى المدرسة ؟
أتحبين هذا ؟
وتقول :
أشتاق إليك في نهاري .
وأقول لأمي :
ما دمت أنا لا أحب أن أرحل
وأنت لا تحبين
فلماذا أرحل ؟
وتقول :
لست أدري !”
(4)
“لو عددتُ درجات بيتي
وكم من مرةٍ صعدتُها
لكان هذا درجاً طويلاً
يخترق السحب
وَلو عددت ضحكات أمي لي
لرافقتني طوال صعودي
ووقعتْ من بعدي الضحكات على الدرج
وأزهرتْ زهرا.”
(5)
“ﺃﺭﺳﻢ ﺻﻮﺭﺍً ﻋﻠﻰ ﻭﺭﻕ
ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺭﻳﺪ ﺃﻥ ﺃﻣﺰﻗﻬﺎ
ﺗﺮﻛﺾ ﺃﻣﻲ ﺗﺄﺧﺬﻫﺎ
ﻭﺗﺤﻔﻈﻬﺎ ﻓﻲ ﺧﺰﺍﻧﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ
ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﺭﻕ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ
ﺭﺳﻤﺖُ ﺑﻴﻮﺗﺎً ﻭﻭﺭﺩﺍً
ﺭﺳﻤﺖ ﺃﺑﻲ
ﻭﻻ ﺃﺣﺪ ﻏﻴﺮﻱ ﻳﻌﺮﻑ ﺃﻥ ﺍﻟﺼﻮﺭ
ﺑﻴﻮﺕٌ ﻭﻭﺭﻭﺩٌ ﻭﺃﺑﻲ”
(6)
“ليتهما يعرفان أن العتاب كالدخان يفني،
ليتهما يعرفان أن الفرح أقوي من الحزن،
ليتهما يعرفان أن لحظة العمر الأخيرة
قد تنزل علينا تأخذنا
و نحن نتخاصم
ليتني لا أعرف ما أعرف.”
(7)
“أفقت هذا الصباح علي صوت آخر البلابل،
فالشتاء أتي اليوم،
وتناديها أمي،
أتي فصل التشرد والبعد”
تأملات
(1)
“زوايا بيتنا مليئة بالأشياء
خزانات بيتنا مليئة بالأشياء
وتحتَ كلّ سرير أشياء عتيقة
نحن نحب الأشياء وإنْ قلّ استعمالها
أو صارت لا فائدةَ منها
لا نعطيها أحداً ولا نرميها
نُحس أن للأشياء أرواحاً
تَحزن إذا أَبعدوها عن أصحابها
وغداً يمتلئ بيتُنا
ولا يعود لنا مكان”
(2)
“متى عدت إلى بيتي
فأمطري يا سماء
لن يتبلل ثوبي الأحمر
متى عدت إلى بيتي
فاغضبي يا رعود
متى سكّرت الباب
وقفلته مرتين
فصرّخي يا ريح أمام الأبواب
لن تفتح
متى أوقدت النار في الموقد
فسل يا ثلج عن ولد
كان هنا مكانك يلعب
متى غفوت في السرير
لا عندما أكذب على أُمي
بل عندما أغفو حقاً
فانزلي حقاً يا صواعق
أنا في الداخل
والباب موصد
والنار مشتعلة
فيا شتاء أَقبل”
(3)
“أَتيتُ الأولادَ المشردين بالأوراق
وسألتُهم أن يرسموا أشجاراً
فرسموا أغصاناً طويلة فارغة
نائمة على الأرض
وعليها مدفعٌ وعسكر
فقلتُ: لا ، إلاّ هذا
ارسموا زهراً وبيتاً
فرسموا زهوراً ملقاةً في مياه المطر
والعسكرُ يدوسُها
وقلتُ: لا ، إلا هذا
ارسموا عصفوراً يغني
كما كنتم ترسمون مِن قَبل
فرسموا عصفوراً يبكي
والمطرُ يهطل
فسكتُّ وأخذتُ الأوراق
وذهبت”
(4)
يا مشغولاً بمأساة
أَلاَ عَرّجتَ في الطريق
على طفلٍ
تُخبره قصّتَك فيبكي لك
أمّا نحن فلا تُنادِنا
كلُّنا صرنا صخورَ مصائبِنا
لا أحدٌ يبكي
كلُّنا صخور
لكننا اخترْنا الأطفالَ والفصولَ
للاستماع إلى قِصصنا
وللبكاء.”
(5)
“الطفل متى عرف أنه من أسراب الطفولة البريئة،
لم يعد منها.
الطفل متى صار يعرف كيف يرسم المهندس البيت،
هربت من صوره خطوط الحب
والجمال الصغير.
البسيط متى عرف أنه بسيط
لم يعد بسيطًا.
الإنسان متى عرف الحقائق
سقط عن سرير الأحلام.”
(6)
أنا أجمع عن الوجوه الضحكات
عن وجوه الفلاحين
عن وجوه الرهبان الطاعنين في السن
عن أفواه الأولاد
عن وجوه المنتصرين
ومهما اشتدت الحروب
ألا تبدر ضحكة عن وجه
من حشودٍ تجمعتْ رسمياً؟
أليس في كل ثانية من الحياة
إنسان يضحك؟
إذن في الأرض ضحك متواصل “
(7)
“حائرٌ أنا
بين أن يبدأ الفرح
وألاَّ يبدأ
مخافةَ ينتهي.”
(8)
“كيف أُفْهِمُك
يا عصفورَ قَفَصِنا
إنني أنا غيرُ أَهلي
لا أُحبُّ أن أقتني
لا أقفاصا ولا عصافير”
(9)
“كلُّهم يعرفون أن دقيقة العمر، مرّةً تأتي.
ويعرفون أن الفرح فيها أحلى من الحزن،
لكنّهم لا يصدقون أنفسَهم”
(10)
اكتبوا
أنّ في يومٍ مِن سنةِ كذا
في جيلِ كذا
ضحكَ ولدٌ قبلَ أن ينام
“اكتبوا على الأوراق
على أوراق الدفاتر
على أوراق الاشجار الصفر
اكتبوا على شبابيك الزواريب الطويلة
على أصغر الأحجار
احفروا في جذوع الاشجار
على أبواب البيوت المتهدمة
اكتبوا كل ما يخطر ببالكم
فاننا راحلوا!
اكتبوا”
اكتبوا
ما دام الرحيل يكتبه هو،
فالوداع لنا
نجعله أحلى وداع “
( 11)
“الأيام أبواب
على كل منها حارس
وقد كُتب علينا
أن نخلق كل يوم
وعلى كل باب
قصةٍ جديدة
نلهي بها الحارس
ليفتح لنا الباب
إلى بابٍ آخر.”
(12)
“صرت أخاف أنْ أطيل النوم؛
كي لا يذهب الجميع وأظل وحدي.”
“لا يعود شيءٌ يخيف
إنْ صرناه.”
“متى ضاع كاتب من الكتاب
نروح نخاف من فراغ الشوارع
ومقاعد الكنيسة
من هدير البحر نخاف
من الرعد
من النار الخافتة نخاف
نخاف من عيون الخائفين
من الفرح
من تجمع العصافير
من دقة الباب نخاف
ونهوى السكوت والظلام لكي نسمع الاتي
ولو انه لا يسمع !”
“انتهى كاتب من الكتاب
نبكي عليه وننساه
ونتشجع لإكمال الكتابة
وينتهى اخر
ونتجمع في الزوايا
نشدّ بعضنا لبعض علنا نبقى
والريح من وراء الابواب
تنفخ على الحبر لينشف”
“وقيل لا تخافوا، القائل يرتجف.
وكيف لا نخاف ؟
والزوايا اختبأتْ في الزوايا
ونار الموقد اختبأتْ تحت الحطبات
والشبابيك التي كانت تنتظر الصباح لتفتح قلبها
تسكرت وتجمعت أمامها وجوه كثيرة ،
تحكي وتصرخ وتبكي بصمت
وهربت الشمس فوق الجبال بين الأغصان الفارغة
كالفتاة المذنبة الهاربة
وشعرها يتطاير وراءها”
“مشينا في الوحل و الضباب,
نحو ساحات المعارك,
و عاد المطر يهطل
و وصلنا
الأشجار العارية السوداء
تقف كالراهبات السود
ديرها الضباب و الشبابيك المكسورة
و رأيت أناسا يأتون من بيوتهم المتهدمة
يأتون من وراء الضباب و قد التفوا بالأغطية
علي صدورهم صلبان من خشب
يتحركون كالصخور التي لا تحرك
و بينهم أولاد مثلهم
سرق من عمرهم ألف ربيع
و الغيوم في هدير سفرها الغامر
توقفت هنا
و راحت ترتل فوق البيوت المتهدمة”
“تعبتُ فجلستُ
ومرّت بي فتاة وقالت:
ما بك تجلس على الوقت !”
“قلت لهم:
ألا تسكرون الأبواب
العاصفة هنا عند المفرق
وقالوا:
على مر الأيام تعودت الأبواب
وسوف تتسكر وحدها عندما ترى العاصفة
قلت: ألا تسكرونها أنتم بأيديكم القوية
قالوا: مللنا الحياة
امتلأت الأرض بالشتائم والحقد
زرعوا خناجر فى قلب الكلام
صاروا يعدون ذكياً من يكفر أحسنهم بالله
ذكياً الذى كلامه أكثر الكلام سفالة
وقلت لهم:
ألا تسكرون الأبواب
فقالوا:
ليت كل همومنا أبواب للتسكير”
“إذا يومًا خطر ببال الطريق أن يسافر
أن يحمل الأشجار ويسافر
كيف بعد يسافر المسافر”
“و طرق السفر يقف عليها أناس كثيرون,
لا يبكون, لا يضحكون,
إنهم مسافرون”
“هل تعرفين ؟
الصغيرُ أمام الكبيرِ ،
أمامَ سيّدهِ
كلامُه أحلى من كلام سيِّده !”
