مصطفى عراقي
اللوحة للفنان الإيطالي يوجينيو زامبيجي
في ليالي الشتاء الهانئة الدافئة، كان يطيب لنا السمر ونحن متحلقون حول أمنا مثل كواكب تطوف حول الشمس.
كان يزيدها الشتاء جمالا وجلالا وإشراقا، بينما هي جالسة ملتحفة بغطاء يبث الدفء ، وشالٍ مايزال مندى بقطرات من أثر الوضوء.
كُنَّا لها كالرعايا حول مليكة محبوبة، وكانت لنا كل شيء، كانت توزع علينا فصوص البرتقالة الذهبية واحدة إثر الأخرى، بعد أن تديرها في يدها وتقشرها بإتقانٍ حتى تخرج القشرة دائرة واحدة ملتفة، فنتسابق لنيل القشرة نلهو بها، وفصوص البرتقال نتناولها متأملين في حبيبات كل فصٍّ من فصوصها منبهرين بجمال منظرها وروعة اتساقها فيما بينها، هذا الاتساق العجيب الجميل الذي تبلوره دهشة الطفولة وفرحة الاجتماع والحوار قبل أن تذوب في أفواهنا الصغيرة.
كنا نلتف حول أمي، تشرئبُّ قلوبنا إلى وجهها النضير المنير، ونظراتها التي تلفنا بعبير الحبِّ والرحمة، وكان برتقال الشتاءِ زاهيا ناضرا، يتألق في كف أمي وهي تجلس على السرير ونحن حولها وتحت قدميها كدوَّارِ الشمس، نُوَلِّي قلوبنا ووجوهنا شطرها، وهي في عليائها، على عرشٍ صنعناه بقلوبنا المحبة، وعيوننا الرانية ، هكذا كانت كف أمي الحانية .
مر الشتاء يتلوه شتاء، وأصبحنا نتطلع إلى أمي في السماء مرددين ما علمتنا إياه صغارا، داعين لها بالخير الذي طالما دعتنا إليه بأقوالها وأفعالها وصورتها وسيرتها، والرحمة التي كانت توزعها علينا مع كل ما تفيض به كفاها من نعمٍ، تتجلى لي من خلالها أينما كنتُ، وحيثما توجهتُ : فصوصُ البرتقال المُذَهَّبة المُحبَّبَة
فكلما رأيت البرتقال هنا وهناك يهتف صوتٌ من مكان أثير في أعماقي مناجيا متألما: هذا هو البرتقال، ولكن أينَ أينَ كفُّ أمي؟