ربما لا تستطيع أن تستوعب ما يفاجئك في موسيقا زياد الرحباني من أول مرة، وربما تدهشك تلقائيته وبساطته التي يتبدى فيها، ثم يبهرك بعد قليل بمدى ما تحمل تلك البساطة من عمق ودراية، وفن وعبقرية.
تلك العبقرية المنسية، التي في اعتقادي أن صاحبها نفسه لا يقف على أبعادها جيدا، ولا يعيرها اهتماما من شدة تلقائيتها، تلك العبقرية التي لن يقدرها الناس ولا الدارسون إلا بعد أن يصبح صاحبها أيقونة تميز تاريخنا، وهذا يجرني لسؤال لا جواب له: لماذا عبر التاريخ، لا يقدر العظماء الحقيقيون حق قدرهم إلا بعدما ينقضي زمنهم؟ لماذا لا تبرزهم مجتمعاتهم وتفخر وترتقي بهم وهم مازالوا بينهم أحياء يرزقون؟
إن زياد رحباني من الفنانين الذين لم يقدروا حق قدرهم، ولم يوضعوا في المكانة التي يستحقونها، وفي محاولة لإلقاء بعض الضوء على حياة هذا العبقري، سنحاول أن نتناول بعض الجوانب من حياته الثرية.
اشتهر زياد رحباني بموسيقاه التي مزجت الشرق بالغرب بوعي وموهبة، وهو فنان له تمثيلياته السياسية الناقدة التي تسخر من الواقع والأوضاع السياسية بشكل فكاهي يبرز معاناة الناس في المجتمع.
كما أنه يعتبر صاحب مدرسة خاصة، في الموسيقى العربية والمسرح العربي المعاصر.
نشأته:
ولد في الأول من يناير عام 1956 في مدينة أنطلياس، التي تبعد بضعة كيلومترات شمال بيروت لعائلة مارونية، والدته نهاد حداد الفنانة اللبنانية ذات الشهرة العالمية المعروفة باسم: فيروز، وهي من أعظم الفنانات في الشرق، والده عاصي الرحباني الشاعر والمؤلف الموسيقي ذائع الصيت، وعمه منصور الرحباني الذي اشتهر مع شقيقه عاصي باسم الأخوين رحباني، وهما من رواد الموسيقا والمسرح اللبناني، ولهما أسلوبهما المجدد في تاريخ الموسيقى العربية.
تلقى زياد تعليمه في مدرسة الجمهور للآباء اليسوعيين في لبنان، حيث برزت موهبته الموسيقية في وقتٍ مبكر، ولنشأته في عائلة فنية، اعتاد الرحباني الصغير أن يسأل والده عن مقطوعاته، ويبدي رأيه فيها؛ لذلك كان عاصي يسأل زياد دائما عن كل لحن جديد يقوم به، إن كان جميلاً أم لا.
ذات يوم، تناهى إلى أذن عاصي لحنا كان زياد يدندنه؛ فسأله: ” أين سمعت هذا اللحن؟
فأجابه: ” لم أسمعه مطلقاً، إنه يتردد في ذهني منذ حين، وقتها أدرك عاصي الموهبة الموسيقية لابنه، لكنه لم يتوقع هو وفيروز أن ولدهما سيتحول إلى شخصية مثيرة للجدل في عصره بسبب موسيقاه وشعره ومسرحياته.
أعماله الأولى
لم يكن أول أعمال زياد عملاً موسيقياً، بل كان عملا أدبيا بعنوان “صديقي الله” كتبه بين عامي 1967 و1968، مما كان ينبئ بولادة شاعر مهم، إلا أنه اختار الموسيقى، وكان أول لحن له عام 1971 وهو بعمر الخامسة عشر، لأغنية: “ضلك حبيني يا لوزية”، التي غنتها الفنانة هدى حداد – خالته – في مسلسل “من يوم ليوم” .
وفي عمر السابعة عشر، عام 1973، قدم زياد أول لحن لوالدته فيروز، وعاصي حينها في المشفى، كان مقرراً لفيروز أن تلعب الدور الرئيسي في مسرحية المحطة للأخوين رحباني، ولهذا كتب منصور رحباني كلمات أغنية، تعبر فيها فيروز عن غياب عاصي حتى تغنيها في المسرحية، وألقى بمهمة تلحينها إلى زياد، الذي أبهر عمه وأبهرنا جميعا بها، إنها أغنية “سألوني الناس” والتي تقول كلماتها:
سألوني الناس عنك يا حبيبي… كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا
بيعز عليي غني يا حبيبي… ولأول مرة ما منكون سوا
سألوني الناس عنك سألوني… قلتلن راجع أوعى تلوموني
غمضت عيوني خوفي للناس… يشوفوك مخبى بعيوني
وهب الهوى وبكاني الهوى… لأول مرة ما منكون سوا
طل من الليل قلي ضويني… لاقاني الليل وطفى قناديلي
ولا تسأليني كيف استهديت… كان قلبي لعندك دليلي
واللي اكتوى بالشوق اكتوى… لأول مرة ما منكون سوا
لاقت تلك الأغنية نجاحاً كبيراً، ودهش الجمهور للموهبة الموسيقية التي يتمتع بها ابن السابعة عشر، وقدرته على إخراج لحن يضاهي ألحان والده، وتقترب من المدرسة الرحبانية في التأليف الموسيقي، حتى أن السامع لها دون أن ينظر للملحن، يكاد يجزم أنها من ألحان الرحبانية، ولم لا؟ وملحنها الشاب هو البرعم الوليد لشجرة الرحبانية باسقة الأغصان.
كان أول ظهور لزياد على المسرح في المسرحية ذاتها “المحطة”، حيث لعب فيها دور الشرطي، كما ظهر بعدها في “ميس الريم” عام 1975، بدور الشرطي أيضاً وفي ذات المسرحية” ميس الريم”، قام زياد بوضع موسيقى المقدمة، والتي أذهلت الجمهور بالتجديد الموسيقي الذي يدخله هذا الشاب على مسرحيات الرحبانية.
ظهرت أولى مسرحياته، عندما طلبت إحدى الفرق المسرحية اللبنانية التي كانت تقوم بإعادة تمثيل مسرحيات الأخوين رحباني، من زياد أن يقدم لها نصا مسرحيا جديدا يضارع في مقوماته مسرحيات الرحبانية، فقام بكتابة أولى مسرحياته “سهرية، بعدها توالت مسرحياته، التي إتخذت طابعاً سياسيا واقعيا يمكن اعتباره السهل الممتنع، يناقش من خلالها الأوضاع السياسية والإجتماعية التي تعيشها البلاد بأسلوب نقدي ساخر، ويمس حياة الشعب اليومية بتفصيلاتها العارية، وهذا ما أثار الآراء المتضاربة حول أعماله، وحياته كلها، مما جعل منه شخصية جدلية على الصعيد السياسي والاجتماعي والفني.
والمعروف عن زياد أنه متعدد المواهب، فهو ملحن وموزع موسيقي له مكانته عالميا، وشاعر وكاتب، وإذاعي وصحافي ومعلق سياسي، فقد قدم عدة برامج إذاعية كانت تبث من إذاعة صوت الشعب في لبنان عبر فيها عن مواقفه السياسية من الأحداث اللبنانية منها: بعدنا طيبين، في عام 1976 أثر الحرب اللبنانية، كان فيها منحازا لقضايا المضطهدين والفقراء من وجهة نظره، ولم يخف يوماً زياد الرحباني انتمائه السياسي، وكان ينتقد الفنانين الذين لا يعبرون عن آرائهم السياسية خوفاً من خسارة جمهورهم.
وهو صحافي كتب في صحيفتيّ النداء والنهار في صحيفة الأخبار كان يكتب عمود “منفيستو” دعماً لانطلاقتها.
من كتابات زياد رحباني
كتب زياد الرحباني كتابه “صديقي الله” بين عامي 1967 و1968، وهو في عمر الثانية عشرة يقول في بعض مقاطعه:
اخترتُ يا ربّي اسماً مغايراً
حتى إذا ندهتني
صرختُ وحدي: نعم
وما ظننتُ النداءَ لغيري
“آتيكَ كلَّ مساءٍ أَعتذر
إنْ ضجرتَ مني،
سآتي غداً بالناي وبالأوتار
سآتي كلَّ يوم بآلة
وأُغنّيك خطاياي.”
“أتحدّاك بالخطيئة
تتحدّاني بالحب”
“أحببتك أكثر مما علموني في الصلاة
أنا ألف مرة يخطر ببالي
أن أناديك بصوت بسيط:
أين أنت يا ربي”
“آه لو كان الكلام كالخبز يشرى،
فلا يستطيع أحد أن يتكلم
إلا إذا اشترى كلاماً”
إلى هنا، سكت الكلام، وموعدنا في مقالات أخرى، عندما نشتري كلاما.فللكلام عن زياد بقية..
