عن الحب الأول

عن الحب الأول

فخري أحمد شهاب

اللوحة: الفنان النرويجي إدفارد مونك

كثر ما كتب فى الحب الأول ، شعرا ونثرا ، ولكن حبى الأول كان مختلفا عما اعتادت روايته أسفار القلوب! 

بدأ حبى الأول بدء إعصار عنيف، وأنا دارج ابن خمس سنين . كان شعورا غريبا أشبه ما يكون بصدمة مباغتة عنيفة تخللها‘ غثيان وظلمة  قاتمة، ثم خدر أتم فى الأطراف عقبته فترة  تماثل عادت إلي فيها الحياة تدريجا.  

وقعت عيناى عليها للمرة الأولى عندما أخذتنى أمى إلى المستشفى الأمريكى فى المنامة، وكان أحد مستشفيين فى البحرين يومذاك، وبعد أن مررنا بالمصلى و حضرنا صلاة الضحى فيه، وكان هذا من الشعائر التى يمر المرضى بها قبل استقبالهم فى المستشفى، وبعد تسجيل اسمى وعنوانى…الخ ، دخلنا العيادة، فاذا بى أمام ملاك يتلألأ فتنة وبهاء؛ وكان هياما مدنفاً عارماً  لأول نظرة!

كانت شقراء هيفاء وضيئة المحيا، يسترعى الناظر منها ابتسامة عريضة مخلصة توحى له فور رؤيتها  بالأطمئنان . وكان مما سحرني فيها بشرتها الوردية الرقراقة التى لم أكن رأيت مثلها من قبل، يغريك تلألؤها بأن تلمسها لتتأكد من حقيقتها لولا الخوف والحياء. ولا داعى

للقول إن هذه انطباعاتى اليوم عن وقع ما شهدت يومئذ  على، وهى انطباعات ماكنت أستطيع وصفها لو طلب ذلك منى فى حينه. 

 ترددت وأنا امشى باستحياء نحوها، وتعاظم ارتباكى حين أمسكت بيدى فجأة وحملتنى بسرعة خاطفة وأجلستنى فى  حضنها. وأحسست أول ما أحسست به نعومة معطفها الأبيض الذى يرتديه الأطباء عادة، وبرودة سطحه الملحوظة، فازدادت بذلك طمأنينتي، واشتملني سلام أحاط  بى من كل جنب، أهذه هي اذاَ “الطبيب المداوي”؟ وما كنت رأيت امرأة طبيبة قبل هذا.  وتأملت وجهى وتفحصته مليا، ولم تفارق شفتيها ابتسامتها الواسعة، ووضعت يمناها على ظهرى لتسنده وتفحصت بيسراها جبينى، ثم أخرجت مسماعها من جيب معطفها وفحصت صدرى وظهري، ثم طلبت أن أكشف عن لساني، فألقت عليه بنظرة فاحصة ثم قالت بصوت هادىء ولكنة واضحة استطرفتها: “لا ، لا ، هو ، بسحة (صحة) جيد (جيدة) – هو زين، زين” !

وأدرت بصرى لأتعرف على البيئة التي وجدتني فيها، و تململت قليلاٌ وأنا مازلت فى حجرها فشعرت هى بحركتى وحسبت أنى أردت الوقوف الى جانبها، فأخلتنى واقتربت هى

من مكتبها، فأتيح لى أن أراها عن كثب وأتفحص الحجرة التى كنا فيها: كان شعرها الأشقر 

اللامع يغطى رقبتها ولا يكاد يصل إلى منكبيها، وكانت بشرتها الزاهرة تعكس نور النهار المنصب عليها من شباك قريب. و كانت اذا تكلمت أو ابتسمت انفرجت شفتاهها عن أسنان واضحة لامعة يحد أحدها إطار معدني دقيق ما كنت رأيت مثله من قبل، و كان معلقاٌ على الجدار الذى جاور مكتبها صوررة رجل أشقر اللحية وشعر الرأس، أزرق العينين، مرتديا ثوباٌ 

أبيض فضفاضا، كما كان على الجدار المقابل صورة بستان وجدول جار، تحتها ما يشبه الأرقام، ولكنها (إن كانت أرقاما) فهى غير مألوفة. 

لم تكن هذه الانطباعات واضحة فى ذهنى الصبى يومئذ  كما قلت، ولكنى وبعد قرابة ثمانية عقود خلت، ما زلت أستعيد هذه الأحداث بلذة لا تعدلها لذة، وما زلت أذكر وقعها مجتمعة على: وهو مزاج من  الدهشة وفقدان القدرة على التصرف بحرية، يتخلل ذلك شئ من فضول ورغبة فى البقاء حيث كنت الى الأبد . 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.