لم يتغير

لم يتغير

أسماء ناصر

اللوحة: الفنان السوري آزاد حمي

دخل معسكره بحماس، كان يعود من غرف التّعذيب مبتسمًا، لكنه الآن مُتعب، خجِل من كلّ هذا الأسى، لم يكن يلوي على شيء، رمت به الأمواج على أرض لا يعرفها ولا تعرفه، لم يناضل للعودة.

يعود من تجاربه بحقائب شبه فارغة، لم يحمل من جولاته شيء، لم يستقبله أحد، الجماهير تصطفّ حول من فرش حقائبه وأفرغها أمامهم، مثل بضاعة مزجاة، يرمقه بقرف، تضيع عيناه وسط كلّ هذه الحشود، كانوا قد أخبروه أنه من الواجب أن تعود من تجاربك مثقلًا بالدروس والحِكم، أن تكبر في كلّ يوم مرةً أو مرتين، وأن تولد مجددًا أربع مرات كحد أدنى، لم يكبر، كان يتضاءل في كل مرة، يفقد شيئًا من ذاكرته وهويته في كل مرة، فيم أخطأ؟

لو اعتليت جبلًا، أو نزلت لسرداب الجامعة، أو دخلت الحمام، ووصلت للمحاضرة في الوقت الذي نودي فيه على رقمك مثل سجين، عليك أن تتعلم شيئًا، يقولون، أن تكتبه بنفَس عاطفيّ يجعل من نزولك للشارع درسًا تلقنه لأجيال من الحسابات الوحيدة والفارغة على هذه الشّبكة، لكنه لم يفعل، ليس لأن الأمر لم يعجبه، لقد أحبه، لكنه لم يستطع أن يجد ما ينال عليه تقدير مراهقي الشبكة، لقد كان عاديًا، يجاهد نفسه منذ السابعة صباحًا، إلى المغرب، يتحمّل همجيّة العالم  كل تلك المدّة، ويصنع وجبته دون أن تقيده ممرات كافيتريا السجون الضيّقة، يمرّ بمجمعّات التسوق بعد ساعة من نزول الرواتب، ويستعيذ بالله ثلاثًا من ذنب العيش مع كل هذه الخراف، يلعن الرأسمالية، ويتذكّر وجه شهيد، تتشنّج ابتسامته لأجل مشاهدة مظاهرة، لكنه خائف من مواجهة والده ليحدثه بشأن مقابلته مع صديق  بعد الثامنة مساءً.

كان ذنبه الوحيد، أن كان عاديًا، أو هكذا يعتقد، يفعل ما يتسق مع عقله ونشأته، النشأة التي تنصّل منها أصحابُها وبقي وحيدًا ينتظر قدوم المعلّم ، وأحيانًا تبتلعه دوامة الحياة فلا يدري فيم ضاع يومه، ويقضي بقيته للبحث عنه، مثل عمود إنارة.

تكسره آية حفظها في المتوسط، وقرأها لأول مرة وهو في العشرين، ثم ينهار لسطر غنائي كتبه مراهق تقدّر ثروته ب٢٦٥ مليون دولار، تفتته مثل بيت خرِب، ويجلس على أطلاله يسأل السّماء: لأجل من كلّ هذا الحطام؟ يغرق كل هذا الثّقل داخل محيطه بعد هنيهات، وتطفو تفاهاته وخفته، ليعود كما كان، سافلًا تائهًا متعجرفًا غير محبوب، ينفلق صدره لأجل مظاهر الانحلال، وتحطمه ترقوة امرأة جميلة، يثمله سماع أذان، ويحني رأسه غضبًا من خطبة، تجده منكبًا على متن يحفظه، ثم يتيه في الشوارع مدندنًا بأغاني الإندرجراوند، يسمعك حديثًا بسنده بفصحى أنقى من شيب رئيس عربي، وينام بقلب أعجمي على أريكته متسمرًا بسجادة صلاة تنتظر لقاءه منذ عامين، ناسيًا بأي شيء أفنى يومه، مثل مدمن أخبروه بأنه سيموت بعد شهر.

لقد عاد من الحجّ للتو، لم تسره كل تلك الأجساد المتدافعة لأجل أن تنهي طلبات ربّها بأسرع وقت ممكن، والتي ستعود بدورها لتجد من يغرقها بالمديح لرحلتها المقدسة، لقد نظر لجبال مكّة دون أن يفكر كيف يشرح هيبتها ل٨٧ من متابعيه على تويتر، وأشاح بوجهه عن الكعبة لئلا تؤنبه على ما فعل، لم يفكر في تصويرها بأية حال.

صار يقرأ ولا يحسّ، ويشاهد ولا ينبس، مثل قرصة رصاصة، تحرقك، ثم تستنزف دمك رويدًا رويدًا، حتى تموت بردا.

لقد داسته كل قطارات التّجارب، تخطف ناظريه كل ثانية بمرورها، وتقذف في صدره قسوة السؤال: ما الذي فاتني؟

لم يتغيّر، لم يأكل وجبة إفطار مع نجمة داخل منطاد في سماء النرويج، لم يحصل على كرسي في منحة تقدّم لها ٣٥٠٠ طالب، لم تسعه شروط مسابقة كان يتحرّق لأجلها، وجد نفسه كارهًا لأي نخبة على أي صعيد، لم يقرأ قائمة كتب اقترحها بيل غيتس، ولم يك منجذبًا إلى أي متحدّث باسم الثقافة والكتب، عروقه تكاد تنفذ من رقبته للدفاع عن الرّبيع العربي، مر الربيع، ولم يزهر هو، يجلس بين رفاق النّضال غير واعٍ بما يقولون، ارتدى كل واحد منهم بدلات الباحثين وأصحاب المناصب العليا الرسمية، جاء هو بجينز وبكارينه “طالب”، يبحث عن نفسه. مازال صاحبنا حزينا ووحيدا، لم يتغير.

رأي واحد على “لم يتغير

  1. لغة مكثفة مشحونة وإشارات ذكية وانتقالات مرنة
    مضمون مؤلم وواقعي

    لكن يقابلنا أمران
    نمطية هذا الشخص أو نمطية تناوله
    فالشخصية العادية أصبحت مغرية كذلك وتناولها الأدب والشعر على السواء
    لذلك أشعر ( وهو الأمر الثاني) أن ذلك نص افتتاحي لحدث أكبر يعتمد على شخصية رسمها في بدايته

    تحياتي

    إعجاب

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.