سعد عبد الرحمن
لحميد بن ثور نص طويل نسبيا عن الذئب بالقياس إلى غيره من الشعراء الذين ورد الذئب في قصائدهم، فهو يتكون من تسعة عشر بيتا، و أول النص يشي بأن هناك أبياتا مفقودة من بدايته، ويحكي الشاعر في نصه عن امرأة تربي مجموعة من البهائم وتخشى عليها من عدوان الذئب فتقوم كل ليلة في أشد ساعات الليل ثقلا على النفس لتتفقدها وتطمئن عليها، وذات ليلة رأته أي الذئب، كان (أطحل) أي رمادي اللون يميل نحو الأرض ثانيا أرجله وهو يتسلل نحو البهائم ليفتك بها، و قوله (شكت) يدل على أنها في أول الأمر حسبته كلبا من كلابها .
كان الذئب المتسلل أيضا ضامر البطن من الجوع وأمعاؤه خاوية إلا من دم جوفه وبقية ما شربه من ماء الحوض ويبدو عليه أنه من شدة الجوع قد برم بحاله لا يدري ماذا يصنع لذا راح يقترب من الناس كأنه يألفهم ويألفونه بينما هو عدوهم الذي يتربص بهم ويتربصون به:
ترى ربة البهـم الفــــرار عشيــة
إذا ما عــدا في بهمها وهــو ضائع
فقامت تعس ســـاعة مـــا تطيقها
مـن الدهـر نامتها الكـلاب الظوالع
رأته فشكـت وهـــو أطحل مائل
إلى الأرض مـثني عليـه الأكارع
طوى البطن إلا من مصيــر يبله
دم الجوف أو سؤر مـن الحوض ناقع
هو البعل الداني من الناس كالذي
له صحبة وهـو العــــــدو المنازع
ويستطرد الشاعر في وصف الذئب فيتحدث عن مشيته المضطربة وعن أنفته من الهزيمة أمام من هو أقوى منه، وعن جلده وصبره على زهادة القوت ونزارته، كما يتحدث عن جرأته وشجاعته فهو يسير لساعات في الليالي قارسة البرد دون تردد، ويتنقل من مكان إلى مكان كأنه شبح لا يرى (خفي الشخص)، ويصف الشاعر الذئب بالذكاء فهو إن حل بمكان ولم يجد فيه ما يصيده ليقظة أهله وحذرهم، غادره لعله يجد بغيته في مكان آخر؛ وهو في كلا الحالين “طيب النفس قانع” بما قدر له من الرزق:
كما اهتـــز عـــــــود الساسم المتتايع
إذا خاف جورا مـن عدو رمت به
مخالبــــــــه والجانــــــب المتواسع
وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها
ذراعا ولــم يصبح لها و هو خاضع
ويسري لساعات من الليــل قرة
يهاب السرى فيـها المخاض النوازع
إذا احتـل حضني بلدة طـر منهما
لأخرى خفي الشخص للريـــــح تابع
وإن حذرت أرض عليـــــه فإنه
بغرة أخــــرى طيـــــــب النفس قانع
و يعود الشاعر في الأبيات الثلاث التالية إلى ذكر المرأة ربة البهم فيقول: إن الذئب إذا وجد منها غرة فبطش ببعض بهائمها تظل تلوم نفسها على غفلتها ولو كان ولدها الذي بطش به الذئب لكان عليها أهون، وبالقطع ذلك مجاز وليس حقيقة فالتعبير كناية يصف من خلالها الشاعر شدة بخل تلك المرأة، ومبلغ حرصها على سلامة مالها، ولقد نام الذئب بعد أن أكل وشبع بينما عافت المرأة البخيلة الأكل بسبب فجيعتها في بهمها، فباتت جائعة من شدة الغيظ، ويصف الشاعر الذئب بشدة الحذر لذلك فهو ينام مغلقا إحدى عينيه فقط، ونومه دائما حالة بين اليقظة والهجوع، وهذا البيت من أشهر أبيات الشعر في الدلالة على يقظة الذئب وشدة حذره :
إذا نال مـــــن بهم البخيــــــلة غرة
لى غفلة ممــــا يرى وهــو طالع
تلــــوم ولو كــــان ابنها فرحت به
إذا هب أرواح الشتـــــاء الزعازع
ونمت كنــوم الفهد عن ذي حفيظة.
أكلت طعاما دونـــه وهـــــو جائع
ينــــام بإحـــــدى مقلتيــــه ويتقي
بأخرى الأعادي فهـــو يقظان هاجع
ويأتي بعد ذلك بيتان أولهما مر بنا معناه أو ما هو قريب من معناه في نص ابن عنقاء الفزاري (وقام فأقعى ..) والبيت الثاني مر بنا بنصه مع اختلاف في لفظ واحد فقط ورد عند ابن عنقاء “ولى” بينما جاء عند حميد بن ثور “أقعى”:
إذا قام ألقى بـــــوعه قدر طـــوله
ومدد منـــــــه صلبه وهـــــو بائع
وفكك لحييـــــــــــه فلمــا تعاديا
صأى ثــــــــــم أقعى والبلاد بلاقع
وينبغي أن نعترف بأن نص حميد بن ثور يعاني قدرا من الاضطراب في بعض أجزائه فأول النص كما سبق أن أشرنا يدل على ان ثمة أبياتا مفقودة من بدايته، ومن أدلتنا أيضا على اضطراب النص البيت الذي يبدأ بـ “فكك لحييه” فهو إذا تأملناه أليق بسياق نص ابن عنقاء منه بنص حميد، ومن أدلتنا على اضطراب النص أيضا أن البيت ينتهي بقوله “والبلاد بلاقع” بينما البيت الذي يليه يتحدث الشاعر فيه عن الجيش الذي ظل الذئب يراعيه طوال النهار، وهذا فيما نتصور تناقض، فكيف تكون المنطقة من حول الذئب بلقعا أي خالية من الحياة بينما يتحرك فيها جيش سواء أكان الشاعر يقصد بالجيش جماعة من الجنود أم يقصد بها قطيعا من حيوانات الصحراء؟ ومما يؤكد ما ذهبنا إليه من اضطراب نص حميد بن ثور أن بـ “أمالي المرتضى” بعض الأبيات زيادة، ويقول محقق الديوان (العلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي) أنه لم يتحققها، كما يؤكد ذلك أيضا أن البيتين التاليين في نص حميد يوجدان في بعض المصادر ضمن نص ابن عنقاء، وأيا كانت صحة نسبتهما إلى هذا النص أو ذاك فإن البيتين يستكملان أوصاف الذئب مثل أنه ماهر في الصيد ولذلك تتبعه جماعات الطير (غيابة من الطير) تلتمس قوتها من بقايا ما يصيده ويفترسه، ومثل أنه يحسن التخطيط لاصطياد فريسته ويغير من خططه من حين إلى آخر، فإذا هم بأمر وأحس بقلة جدواه فإنه يتركه ليزمع أمرا غيره، وهو على ثقة دائما أنه بعد الضيق يأتي الفرج وأن بعد العسر يسرا :
إذا ما غدا يوما رأيت غيابة
من الطير ينظرن الذي هو صانع
فهم بأمــــــر ثم أزمع غيره
وإن ضاق أمر مرة فهـــو واسع
حميد بن ثور (توفي عام 23 ھ)، هو المثنى حميد بن ثور بن حزن الهلالي، شاعر مخضرم عاش في الجاهلية وقضى الشطر الأكبر من عمره مشركا، حضر حنين مع المشركين ولكنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.