ثناء هاشم
اللوحة: الفنانة المصرية نانيس عرفات
في الصف الثالث الإعدادي، كان لدينا مدرس لغة عربية شديد التميز مثقف وذكي وخفيف الظل، ولم يكن من أبناء الإسماعيلية، كان من محافظة أخرى ويعيش مغتربا، وكان كثيرا ما يعرج من موضوعات منهج اللغة العربية إلى السياسة والتاريخ، وينتقد أمورا كثيرة بعضها تاريخي وبعضها حديث وبعضها معاصر، وفي إحدى الحصص كان يحلل ثورة يوليو ونحن نستمع أحيانا، ونتجاوب بالنقاش أحيانا، وكان يحكي ويجيب بابتسامة دائمة غريبة، وصبر شديد حتى لو انتهت الحصة في النقاش ولم نكمل الدرس.
حكى لنا بعض الحقائق عن تاريخ مصر المعاصر؛ فإذا بي أنفجر في البكاء بشكل هزه شخصيا، وسألني عن سبب بكائي، فأجبته وأنا أنهنه بكلمات متقطعة: “لأنك مابتحبش مصر”
صمت قليلا، وغابت ابتسامته لأول مرة، وهو ينظر لي نظرات لم أنسها مطلقا حتى الآن، ولم أفهمها ساعتها، ولكنني بعد زمن فهمتها جيدا، بعدما كنت أضبط نفسي وأنا انظر لبعض الناس تلك النظرة ببصمتها ذاتها، وما بها من كل معاني العجز والحيرة والإحباط والألم والعطف أيضا.
المهم أن المدرس طلب مني أن أمر عليه في الفسحة حتى يتحدث معي، وبالفعل ذهبت، استقبلني هاشا باشا وأصر أن يقدم لي شايا وبدأ الشرح، قال لي كلاما كثيرا، ولكن ما أذكره وما غير الكثير في شخصيتي أنه سألني سؤالا غريبا: هل تدرين ما هو الأمر الأكثر قسوة في حياة المرء؟ هززت رأسي بالنفي، فأجاب بصوت حزين: أن يتهم في شرف عشقه وحبه، وأنت فعلت ذلك بكل قسوة وجهل، ثم أضاف أنا أحبك لأنك أقرب التلميذات إلى قلبي، وأكثرهن شطارة وحساسية، لذلك لم أغضب منك، ولن أدافع عن نفسي لأنك صغيرة، ولن أحملك مالا طاقة لك به من تجاربي وحياتي ومعارفي، ولكنني سأنصحك نصيحة وتذكريني حتي لو لم نتقابل بعد هذا العام، اقرئي واقرئي واقرئي، واستمعي جيدا إلي من يطرحون الأسئلة لا من لديهم إجابات جاهزة باستمرار، اهتمي بمن يقولون لا أكثر ممن يقولون نعم، مرري الحقائق والمسلمات على عقلك أيا كانت الحقائق وكنهها، وناقشيها مع نفسك أولا قبل الآخرين، وتذكري جيدا أن هذا هو الفرق الجوهري بين الإنسان والبهيمة، وعليك أن تختاري كينونتك من بين هذين النوعين، الإنسان والبهيمة.
منذ فترة وهذا الرجل يسيطر على ذاكرتي، لقد وعدته أن أفعل، ومن يومها وأنا أفعل، ولكنني أدركت كنه تلك النظرة الحزينة المقتولة الحائرة التي باتت تسكن عيني تقريبا، وذلك الجرح الغائر الذي يصيبك من أولئك الجهلاء الجبناء الذين يتهمون المعارضين طارحي الأسئلة الحيارى المعذبين بهموم وحاضر ومستقبل الوطن، أنهم كارهون للوطن.
لم أعتذر وقتها لأستاذي الذي لم أره فعلا بعد ذلك العام، ولم يطلب هو مني ذلك، ولكنني الآن أذكره، واتمنى أن يكون قد سامحني، وأعتب عليه كثيرا عتاب المحب، لأنه من يومها أدخلني في عالم آخر لا تقر فيه روح ولا تهدأ، لأمر بسيط وجلل في ذات الوقت، جر علي وعلى من هم مثلي ويلات المعرفة، وحيرة التضاد، وأسئلة الوجود، إننا نحب هذا الوطن بحق.