سعد عبد الرحمن
نواصل نشر دراسة الذئب وتجلياته في الشعر العربي القديم، وفي هذا المقال نتوقف عند شاعرين من شعراء العصر الجاهلي هما أسماء بن خارجة الفزاري والنجاشي الحارثي.
نبدأ بنص أسماء الذي يتحدث فيه عن الذئب وهو ليس نصا مستقلا وإنما جزء من قصيدة، وهو نص طويل يستغرق تسعة عشر بيتا، يبدؤه الشاعر بأن أحد الذئاب طرأ عليهم يطلب الطعام، ذئب تعس الحظ في كسب الرزق (محارف كسب) فلا ينال ما يقيم أوده من الطعام إلا من حين إلى حين (غبا إلى غب) وإن ظفر بما يتبلغ به بدا كأنه لم يستشعر الجوع أبدا، وكان الذئب هزيلا نحيلا قد التصق جلد بطنه بظهره من شدة الجوع:
ولقــــد ألــــم بنـــــا لنقريـه
بادي الشقاء محارف الكسب
يدعــــو الغنى إن نال علقتـه
مـــــن مطعــم غبا إلى غب
فطـــــــوى ثميــــلته فألحقها
بالصلب بعد لدونــة الصلب
ثم يلبس الشاعر زي الواعظ فيلوم الذئب على تبذيره وتفريطه فيما اكتسبه، ويقول له لو كنت أيها الذئب شخصا عاقلا لادخرت الكثير مما توافر لك من شبابك حتى الآن، ولأنه من غير المعقول أن يكون هذا الكلام موجها إلى الذئب لأن ما يصطاده الذئب غير قابل للحفظ و الادخار فلابد إذن أن يكون في الكلام “إسقاط” نفسي فالشاعر في جوهر الأمر يسقط على الذئب أهم العيوب التي يعرفها في نفسه ألا وهي قلة حرصه على الغنى و ادخار المال:
يا ضل سعيــــك ما صنعت بما
جمعــــت مــــــن شب إلى دب
لو كنت ذا لــــب تعــيـــــش به
لفعلت فعـل المــــــــرء ذا اللب
فجعلت صالح ما احترشت وما
جمعــــت مــــن نهب إلى نهب
ثم يفيق الشاعر من حالة الاستقطاب النفسي ليستكمل حديثه الصريح مع الذئب فيقول له أيها الذئب إن كنت تريد أن تشغب علينا فنحن لنا باع طويل في الشغب و لدينا أسلحتنا التي سنرد بها على شغبك، وأنصحك أيها الذئب أن تطلب بغيتك عند أصحاب الغنم و ليس عندنا نحن أرباب الإبل ربما تجد منهم غرة فتفترس بعضا من شياههم ، و على أية حال فقد أخطأت حين حسبتني ممن يمكنك أن تلم بهم عند الحاجة فما من شيء يربط بيننا لا صداقة و لا نسب ، أنت ذئب و أنا إنسان .
و حين أيقن الذئب أنه جدوى من متابعة ركب الشاعر وأصحابه طلبا للطعام أقعى غير بعيد و عوى عواء من يشتكي داء برح به:
وأظنــــــه شغــــــبا تـــــدل به
فلقــد منيــــت بغايـــــــة الشغب
إذ ليس غير مناصل تعصى بها
ورحالنــــــا وركائــب الركب
فاعمد إلى أهل الوقيـــــــر فإنما
يخشى شــذاك مقرفــص الزرب
أحسبتنا ممـــن تطيـــــــــف به
فاختـــــرتنا للأمــــــــن والنهب
وبغيــــــر معرفــة ولا نسب
أني وشعبـــك ليــــس من شعبي
لما رأى أن ليــــــس نافـــــعه
جـــد تهـــــــاون صـــادق الإرب
و ألح إلحـــــــاحا بحاجتـــــــه
شكوى الضريــر ومزجر الكلب
ولما وجد الشاعر أن الذئب مصر على متابعته و مراقبته و أقعى غير بعيد يشتكي ألم الجوع الشديد أحس أنه قد بالغ في أذاه بالسب و الزجر ليبتعد دون جدوى فرق قلبه له و قرر أن يكون ضيفه و أن يفعل معه ما تعود أن يفعله مع ضيفانه من البشر، فاختار أسمن نوقه وعقرها ثم تركها وليمة للذئب و عياله يأكلون منها حتى يشبعوا.
و هنا نتأكد أن ما كان ينصح به الشاعر الذئب من عدم التفريط و التبذير كان بالفعل إسقاطا نفسيا فهو لم يكن – كما سبق أن ذكرنا – ينصح الذئب و إنما في الواقع كان ينصح نفسه، ولكن الطبع غلب التطبع فقد استسلم الشاعر في نهاية الأمر لطبع الكرم الذي ورث جرثومته من أبيه ( أنا ابن قاتل شدة السغب )، فضحى بأسمن نوقه ليطعم الذئب الجائع و عياله :
و لوى التكلح يشتكي سغبا
وأنا ابن قاتل شـــدة السغب
فرأيت أن قـــــد نلته بأذى
من عذم مثلبة و مـــــن سب
و رأيت حقا أن أضيـــــفه
إذا رام سلمي و اتقى حربي
فوقفت معتــــــاما أزاولها
بمهنـــد ذي رونـــق عضب
فعرضته في ساق أسمنها
فاجتاز بيــــن الحاذ و الكعب
فتركتها لعيـــــــاله جزرا
عمدا وعلــق رحلها صحبي
ونلفت الانتباه إلى أن خللا عروضيا لحق تفعيلة العروض في البيت الذي يبدأ بقول الشاعر “فاعمد إلى ..” فنجد أنها تامة ( متفاعلن ) بينما ينبغي أن تأتي هكذا ( متفا ) كما في سائر الأبيات لأن ( الحذذ ) و هو حذف الوتد المجموع من آخر ( متفاعلن ) علة تلزم وليس زحافا يروح و تجيء .
ذئب النجاشي الحارثي
نص النجاشي عبارة عن سبعة أبيات فقط يحكي فيها قصة وقعت له مع الذئب خلاصتها أنه ورد حوضا في أرض ممحلة كان به القليل من المياه و هناك وجد ذئبا يريد أن يشرب و لكنه على الرغم من شدة ظمئه متخوف حذر فخلى الشاعر بينه و بين الماء كي يرتوي ، و يحكي الشاعر القصة بطريقة بديعة يمزج فيها بين السرد و الحوار و يمهد لقصته بوصف المكان :
وماء كماء الغسل قد عاد آجنا
قليل به الأصوات في البلد المحل
وجدت عليه الذئب يعوي كأنه
خليــع خلا من كل مال ولا أهل
و نعرف من البيتين السابقين أن ماء الحوض ليس على ما يرام فهو لأنه قليل متغير اللون و الطعم، كما نعرف أن الأرض التي يوجد بها الحوض منطقة ممحلة جفتها الأمطار لفترة طويلة و نعرف أيضا أنه لم يكن على الحوض الذئب و الشاعر وحدهما بل كانت هناك أيضا بضع حيوانات أخرى و طيور دلنا على ذلك قول الشاعر ” قليل به الأصوات ” ، و يعطينا الشاعر وصفا دقيقا لحالة الذئب الظامئ فيشبهه بصعلوك خليع تبرأ منه أهله و ذووه فهو في حالة يرثى لها من الفاقة و ندرة المواسين لذلك من الظمأ.
ثم يتخيل الشاعر حوارا بينه و بين الذئب يبدؤه بسؤال يقول فيه للذئب: هل لك فيمن يغدو لك صديقا فيعطف عليك و يعينك دون من أو بخل ؟ فيرد عليه الذئب قائلا: هداك الله سبيل الرشاد ، إنما تدعوني أيها الشاعر إلى ما لم يدع إليه حيوان مفترس قبلي ، و هو أمر مستحيل تأباه جبلتي و لا أستطيعه و لكن كل ما أرجوه منك أن تدعني أروي ظمئي مما يتبقى من ماء الحوض بعدك ، فعقب الشاعر على كلام الذئب بقوله : هأنذا انتهيت من الحوض و تركته و فيه قدر من الماء يكفي لري ظمئك و يزيد :
فقلت لـــه يا ذئب هــــل لك في فتى
يواسي بلا من عليـــــــــك و لا بخل؟
فقال هــــــــــداك الله للرشـــــد إنما
دعــــوت لما لــــم يأته سبــــــع قبلي
فلست بآتيــــه و لا أستطيــــــــــعه
ولاك اسقني إن كــان مـاؤك ذا فضل
فقلت إليـــك الحــــوض إني تركته
وفي صفوه فضل القلوص من السجل
و لما شرب الذئب و ارتوى راح يعوي عواء مطربا يستهوي به غيره من الذئاب الظامئة كي تأتي لتشرب ، ويختم الشاعر قصته بأن كلا منهما بعد ذلك ذهب إلى حال سبيله :
فطرب يستهــــــوي ذئابا كثيــــرة .
وعديت، كل مـــــن هواه على شغل
و نلفت الانتباه إلى أن خللا عروضيا لحق عروض البيت الذي يبدأ بقوله ” فاعمد إلى …. ” فقد جاءت العروض تامة بينما هي حذاء في سائر أبيات القصيدة أي حذف الوتد المجموع من آخر التفعيلة فهي ( متفا ) و ليس ( متفاعلن ) كما وردت بالبيت المشار إليه .
ابن خارجة الفزاري (توفي سنة 66 ھ) هو أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة الفزاري و كنيته أبو حسان الكوفي، من أشراف العرب وسادتهم، تزوجت بنته الحجاج بن يوسف الثقفي، اشتهر بالجود والسخاء وحسن الخلق حتى ليروى أنه لم يشتم أحدا قط .
النجاشي (توفي سنة 80 ھ) هو لقب الشاعر أبي الحارث قيس بن عمرو بن مالك من بني الحارث بن كعب ، شاعر يعد من أشراف العرب ، مسلم و لكنه كان رقيق الدين فاسقا ، وقد اشتهر بالهجاء وأصله من نجران باليمن وقد لقب بالنجاشي لأن أمه كانت حبشية .