ما زالت العصافير تغرد

ما زالت العصافير تغرد

مصطفى البلكي

اللوحة: الفنانة الكويتية هاجر عبد الرحمن

 سمع سرينة السيارة، فانتبه، فترك ما كان يقوم به، وصعد السلم الحجري، وجد جدتي تقف بالقرب من البيارة، بيدها فطوره وكوب شاي، وسؤال وحيد وجهته للضابط عن سبب الحضور، تقدم منها وقال: 

ـ موضوع بسيط، نأخذ منه كلمتين، ونتركه. 

كان جدى قد انتصب جسده النحيف ـ يطوقه سروال وفانلة ـ فوق الأرض، واتجه مباشرة إلي الضابط، مأخوذا، نظر بعينين زائغتين، تارة إلي حشد العسكر، وتارة إلي جدتي الثابتة في مكانها، وفى نهاية رحلته جمع شتات نفسه، وفلت منه الطلب:

ـ لقمة أصلب بيها عودي.

نظر الضابط بعينين لم أعرف لهما لونًا إلي الطبق المكمم بالخبز، وقال لرجله القريب منه:

ـ خلى بالك منه. 

جلس جدي بالقرب من زجاج الصورة المهشم، وقصاصاتها الملقاة الصغيرة، وأخذ يلوك بعض اللقيمات، ولما انتهى قَبّلَ ظاهر يده وباطنها، كانت جدتي قد أحضرت جلباب المناسبات الكستور، تناوله منها، وأدخل جسده فيه، وسُحب إلي السيارة.

مع انطلاق الركب، تحركتُ إلي البيت بصحبة جدتي، داستُ هي علي كومة من الزجاج، كانت مكومة بجوار “طلمبة” رفع المياه، ألقتْ جدتي نظرة عليها وقالت إنها هي السبب، ومالتْ عليها لجمعها ولجمع قصاصات الصورة.

أول مرّة رأيتُ فيها الصورة، كان زجاجها لامعاً، كنتُ أقف بجوار جدي وهو ينظفها، ظننته أحد أفراد العائلة العظام الذين فتح الله عليهم، تبدل هذا الاعتقاد عندما لمحتُ زجاجها الواقع أمام الكاب قد اكتسب اللون الأسود، بسبب افرازات الذباب، كان لا بد من السؤال عن صاحبها. لِمْ لم تعد نظيفة؟ أحجمت فلما رأيتُ مثلها فوق رأس ناظر المدرسة، قتلت السؤال، ولم أشأ الدخول مع جدي في جدال، وبالتدريج تجاهلتها كأنها غير موجودة، حتى جاء اليوم الذي شاهدته يحملها وعلى حوض المياه يهشمها.

غاب جدي شهراً، كنا أنا وجدتي نخرج، كل يوم نحمل طعامًا مصرورًا، نصل إلي ساحة المركز عند شروق الشمس، نظل قابعين بجوار بقالة تُصرف منها أمور الزيارات، بدفع المال.

في الزيارة الثالثة، تكلم جدى، قال بمرارة معتقة إن أحد رجال العمدة رآه يهشم الصورة، فأخبره، فقام بإبلاغ المركز. جدتي رغبت في تهدئته، فطالبته بالصبر، جدي ضرب كفًا على كف، وقام، خلع عمامته، وطلب خراب بيوت الظلمة أولاد الكلب.

 تحوّلتْ إلينا عيون كل من كانوا في الزيارة، رأيتهم ينقسمون: بعضهم اكتفى بمصمصة الشفاه، وأفراد منهم تحركوا صنعوا حولنا دائرة بأجسادهم، كان بمثابة العشب الذي عثر عليه، ووجده كافياً لزيادة النار اشتعالاً، فراح بعناية بالغة يصعد من الدعاء على الظلمة.

من رآه يومها، سلم باستحالة سكوته، لكن جدتي فور أن طوقته بذراعيها، سكن جسده، فلما ابتعد الفريق الثاني أطلقته، وقبلته على جبينه، ثم قامت وأنا معها.

ظل لغز ما حدث في جوانح جدي، وظللنا أنا وجدتي نذهب إليه، حتى جاء يوم قيل لنا فيه: ممنوع الزيارة. سارعنا إلى دكان البقالة، صدنا صاحبها وقال إن ما فعله جدى يعد من عظائم الأمور.

عدنا أنا وجدتى، طول المشوار مسيطر عليها الصمت، وصلني همسه، فشاركتها في تثبيته.

 أحيانا كنت أضبطها ودمعة تتكون في عينها، تمد يدها، فتعصرها، أتركها وأخرج، أنظر إلي الوابور الساكن، وإلى عمل لم يكمله، فتغلبني الدموع.

 مرّة دارت العينان بطريقة لم أعتد عليها، في محيط الوقفة، عثرت علي جزء من الصورة، ملتُ وانتشلتها من بين كومة من القش، كانت جزءاً من الكاب، لا أعرف لماذا أودعتها جيبي، وقتها علي الأقل..  

 مضى شهر، وذات صباح استيقظتُ، وجدتُ جدى يجلس علي حِرَام قديم، عليه نفس الجلباب الذي خرج به، تفحصته، فوجدته مضمخا بكم من الأوساخ، جلستُ بجواره، مد يده وطوقنى، ولما نظرتُ إلي وجهه، كان شاحباً، ابتسم ابتسامة محدودة الملامح، كأنه أرغم نفسه علي رسمها بهذا الشكل المقتضب، تركته وأسلمتُ نفسى للفضاء، كنتُ أراقب أسراب الطيور الطليقة المحلقة في الفضاء.

لما شبعتْ روحى من المنظر، تعمدت ألا أُحدث صوتا أثناء دخولي كان جدى قد دخل البيت، شاهدته ملقي علي بطنه ويد جدتى تروح وتجئ علي ظهره العارى، توزع الدهان بلونه الأبيض علي مناطق وردية، أحس بدبيب خطواتى رغم حذرى، فرفع إليّ عينين متألقتين، بهما الكثير من الدموع الراغبة في الانهمار. 

  كان يقوم مبكراً، يهيم علي وجهه في الحقول، حتي إذا ما هده التعب، عاد، فجلس بجوار البيت، فإذا ما نسج الليل أول خيوطه، قام وجلس تحت النخلة، دقائق ويجتمع حوله أصحابه، كان فاكهة الجلسة مقرئ كفيف، يرتدى العمة والقفطان، ويرتاد دواوين العائلات، كان الوحيد المؤهل لقص نوادر الكبار بحكم قربه منهم، لا تخلو جلسة من جلساته إلا ويعدد ما يمتلكه من حكايات عن أناس يعرفهم، يتركه جدى حتى يأتى بكل ما لديه، ثم يسأله عن الأشياء التي سيأخذونها معهم، الشيخ يضحك ويقول:

ـ لن يأخذ منها إلا مترين من القماش، ولفة من القطن تُكور وتوضع في دبره.

 ظل هاجس الموت يؤرقه، فإذا ضاق به، ناداني، فخرجت معه لأكون عكازه. 

 أثناء سيره في الشوارع، لا تظهر له أي امرأة، ولا يبرز له طفل، كنت أري الحزن في عينيه، وهو يرى كل أبواب البيوت تُغلق في وجهه، كان يذكرني باصطحابها، وبأجدادهم الذين كانوا يحبون الجلوس إليه، يتبادلون معه الأحاديث، ويأخذون منه السجاير المكنة. فإذا ما هده التعب، جلس، كان ينظر إلى ويقول: الناس تقول إن السعادة والشقاء من زرع  يد بني آدم، فأيه اللى زرعته أنا ؟ ” 

كنتُ أسكتُ، وأنظر إلى السماء.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.