سعد عبد الرحمن
نواصل نشر دراسة الذئب وتجلياته في الشعر العربي القديم، وفي هذا المقال نتوقف عند أربعة من شعراء العصر الجاهلي الذين خاضوا تجربة الصراع مع الذئب وبعضهم افترسه، وهما البحتري والشريف الرضي وابن نباتة السعدي والشمردل.
نبدأ بنص البحتري وهو جزء من قصيدة طويلة و يقع في ستة عشر بيتا و يعد من أجمل النصوص الوصفية في تاريخ الشعر العربي بل يرقى في سلم الفن و الإبداع حتى إنه ليعد من وجهة نظري من أجمل النصوص في تاريخ الشعر العالمي بعامة، يبدأ البحتري حكايته مع الذئب بتحديد الوقت الذي راح يجتاز فيه الصحراء وكان ذلك في الهزيع الأخير من الليل و قد لاح وسط حلكة الظلام بصيص ضئيل من ضوء الصبح فبدا كأنه بقية من نصل صقيل ( لامع براق ) لم يحتوها الغمد، تسربل الشاعر بظلمة الليل و هو في طريقه و كان الذئب نائما قلقا نوم اللص المتوجس الحذر، و قد لقي الشاعر في سراه بالصحراء بعض سكانها من الطيور والحيوانات والزواحف، منها ما أزعجه وقع خطوات الشاعر فغادر مرقده خائفا فزعا مثل القطا و منها ما ظل على حاله غير مبال كالثعالب والأفاعي:
و ليل كأن الصبح في أخرياته
حشاشة نصل ضـم إفرنده غمد
تسربلته و الذئب وسنان هاجع
بعين ابن ليل ماله بالكرى عهد
أثير القطا الكدري عن جثماته
و تألفني فيــــه الثعالب و الربد
ثم يركز الشاعر حديثه على الذئب الذي استيقظ حين اقترب الشاعر من مكانه وكان ذئبا رمادي اللون يملأ العين مهابة و له أرجل طويلة و أضلاع بارزة تدل على ندرة ما يجده من طعام، و للذئب ذيل طويل يمتد خلفه كحبل الدلو الغليظ بينما ظهره منحن محدودب كظهر القوس.
جوع الذئب الشديد زاد من نحافته وضمور بطنه ( فما فيه إلا الروح و العظم و الجلد ) كما زاد من شراسته، لذلك فعندما اقترب الشاعر من مكانه برز له و هو يصر بأسنانه شراسة فتحدث صوتا أشبه بصوت أسنان الإنسان المقرور الذي يرتعد من شدة البرد:
وأطلس ملء العيـــن يحمل زوره
و أضلاعه من جانبيــــه شوى نهد
له ذنب مثـــــل الرشـــــاء يجـــره
و متن كمتن القــــــوس أعوج منأد
طواه الطوى حتى استمر مريـــره
فما فيـه إلا الروح و العظم و الجلد
يقضقض عصلا في أسنتها الردى
كقضقضة المقـــــرور أرعده البرد
ومن شدة جوعه يطمع الذئب في افتراس الشاعر و الشاعر لم يكن بأقل جوعا من الذئب لذلك فقد حدثته نفسه أن يجعل الذئب هذه الليلة فريسته قبل أن يكون هو فريسة له، فكلاهما لظروف ندرة الطعام في تلك الصحراء القفر و شدة ما يعانيه من ألم الجوع ذئب يضمر افتراس الآخر إذا التمس منه غرة:
سما لي و بي من شدة الجوع ما به
ببيداء لم تعرف بها عيشة رغد
كلانا بهـــــا ذئب يحـــدث نفســــه
بصاحبه، والجد يتعســـه الجد
و تطور الأمر فخرج من نطاق الرغبة و النية إلى الفعل فعوى الذئب ثم أقعى في مواجهة الشاعر ينتظر اللحظة المناسبة للوثوب و الانقضاض عليه و أنشد الشاعر بعض أبيات الرجز يحمس بها نفسه و يشجعها على الصمود في مثل هذا الموقف الصعب فأستثار ذلك الذئب الذي قرر الهجوم على الشاعر فأقبل في سرعة و قوة و لكن الشاعر كان مستعدا فرماه بسهم خرج من القوس كأنه كوكب ينقض من السماء في ليلة حالة السواد ولكن السهم طاش مما زاد من شراسة الذئب و إصراره على البطش بالشاعر، و سرعان ما أتبع الشاعر سهمه الأول بسهم آخر لكنه في هذه المرة أحسن التصويب فاخترق السهم قلب الذئب ( بحيث يكون اللب والرعب والحقد ):
عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته
فأقبل مثــــل البـــــرق يتبعه الرعد
فأوجرته خرقاء تحسب ريـشها
على كوكب ينقض و الليـــل مسود
فما ازداد إلا جـــرأة و صرامة
و أيقنت أن الأمر منه هـــــــو الجد
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها
بحيث يكون اللب و الرعب و الحقد
سقط الذئب صريعا و قام الشاعر فجمع بعض الحصى و أوقد نارا فاشتوى عليها الذئب الصريع و أصبح بحكم الضرورة المفترس مفترسا و نال الشاعر الجائع قليلا جدا من لحم فريسته أي بمقدار ما يقيم أوده و ترك الباقي معفرا برمل الصحراء:
فخر و قد أوردته منهـــــل الردى
على ظمأ لــــو أنـــه عذب الورد
و قمت فجمعت الحصى فاشتويته
عليه و للرمضاء مــــن تحته وقد
و نلت خسيــــسا منــــه ثم تركته
و أقلعت عنـــه و هــو منعفر فرد
ذئب الشريف الرضي
نص الشريف الرضي عن الذئب يتشابه مع نص حميد بن ثور في البحر ( الطويل ) والقافية ( العين ) مع الفارق في الروي فهو عين مضمومة في نص حميد و عين مكسورة في نص الشريف و يتشابه كذلك النصان في الطول فكلاهما يقع في تسعة عشر بيتا ، و كان بعض النقاد القدماء في سياق موازنتهم نص الشريف الرضي بنص البحتري يقولون إن الشريف قد أجاد في نصه وصف الذئب بينما أجاد البحتري نصه وصف حاله مع الذئب .
و يبدأ النص بلقاء الشاعر بالذئب و كان الوقت ليلا (أتيح له بالليل )، و يصف الشاعر الذئب الذي لقيه بأنه مثله نحيل هزيل من شدة الجوع و لونه أغبر يميل إلى السواد ، كما يصفه بأنه يألف حياة الصحراء المقفرة و لا يشعر فيها بالوحدة أو الوحشة:
و عاري الشوى و المنكبين من الطوى
أتيح له بالليل عاري الاشاجع
أغيــــــبر مقطـــــوع من الليــــل ثوبه
أنيس بأطــراف البلاد البلاقع
و الذئب لا ينام إلا قليلا و نومه بين توجسا و حذرا و ينشط الذئب في الليل و يزيد من نشاطه طمعه أن يكون الظلام عونا له في العثور على طعام يتقوت به ، لذلك هو يرصد كل من حوله بدقة شديدة مترقبا أن تصيب أحدهم غفلة أو تغلبه سنة من النوم فيهجم هجومه الخاطف على فريسته:
قليل نعاس العيـــــــن إلا غيابة
تمر بعيـــــــــني جاثم القلب جائع
إذا جن ليل طارد النــوم طرفه
و نص هـــــدى ألحاظه بالمطامع
يراوح بين الناظرين إذا التقت
على النوم أطباق العيـون الهواجع
له خطفة حذاء مــــــن كــل ثلة
كنشطة أقنى ينفــــض الطل واقع
كان الوقت هو الهزيع الأخير من الليل حين ألم الذئب بالمكان الذي خيم فيه الشاعر و راح يتجول متسترا بظلمة الليل حول المكان مستخدما في استطلاع الموقف كل ما لديه من حواس عينيه و أذنيه و أنفه و كان يتصنع العرج في مشيته و يتسحب مستترا بظلمة الليل حتى إن صدره يكاد يحك بالأرض فلما أحس به الشاعر صاح به و رماه بشيء أفزعه فهرب في سرعة بعيدا عن المكان ، و حين تكون فريسة الذئب قوية و تقاومه فإنه يستخدم مع أسنانه مخالبه حتى يجهز عليها و لديه جرأة و إصرار شديد على نيل مراده ، و يستخدم الذئب الحيلة و الخداع مع الرعيان فيتسلل خفية إلى الأماكن التي يؤوون فيها الغنم مثل اللص الداهية العتيد في لصوصيته:
ألم و قــــد كاد الظــــــــــــلام تقضيا
يشرد فراط النجـــــــــــــوم الطوالع
طوى نفسه و انساب في شملة الدجى
و كل امرئ ينقاد طـــــوع المطامع
إذا فات شـــــيء سمعــــــــه دل أنفه
و إن فات عيـنيــــــه رأى بالمسامع
تظالع حتى حـــــــك بالأرض زوره
و راغ و قــــد روعته غيـــــر ظالع
إذا غالبــــــت إحدى الفرائس خطمه
تداركهــــا مستنــــــــــجدا بالأكارع
جريء يســــوم النفس كل عظيـــمة
و يمضي إذا لم يمض مـــن لم يدافع
إذا حافظ الراعي على الضـأن غره
خفي الســـــــــــرى لا يتقي بالطلائع
يخادعـــــه مستهزئا بلحاظـــــــــــه
خداع ابن ظلماء كثيـــــــــــر الوقائع
وحين عوى الذئب الذي كان يفصل بينه و بين الشاعر تيقن أصحاب الشاعر أنه لن يرجع فقد يئس من أن يجد عندهم ما يأكله و لكنه عاد حين هدأت قليلا شدة الرياح و ليته ما عاد فقد سعى إلى حتفه بظلفه لقد كان القوم في انتظاره بسهامهم و غدا الصياد صيدا و المفترس فريسة:
و لما عوى و الرمل بيـــــني و بينه
تيــــــقن صحبي أنه غيــــــر راجع
تأوب و الظلماء تضـــــــرب وجهه
إلينا بأذيـــــال الريــــــاح الزعازع
له الويـل من مستطعم صـــار طعمة
لقــــوم عجـــــــال بالقسي النوازع
و نص الشريف الرضي يكاد يكون نصا وصفيا صرفا فالشاعر يصف فيه الذئب معتمدا إلى حد كبير على خبرات و معلومات سابقة لديه دون أن يعطينا أي انطباع نفسي تجاه ذئبه سوى في البيت الأخير من النص و من خلال جملة مقتضبة غير واضحة في دلالتها ( له الويل ) : أهي الشماتة أم الرثاء ؟ و إن كانت إلى الشماتة أقرب.
ذئب ابن نباتة السعدي
و يتشابه نص ابن نباتة السعدي مع نصي حميد بن ثور و الشريف الرضي مع نفس الفارق الذي ميز نص الشريف عن نص حميد و هو اختلاف حركة الروي فهي الضمة في قافية نصي حميد و ابن نباتة و الكسرة في قافية نص الشريف، و يبدأ النص بأن الذئب رمادي اللون يسعى في الطلب الرزق و بالرغم من سعة المكان إلا أن رزقه ضيق ، و ضيق الرزق هو ما يجعل الذئب شرسا فيخشى أخوه الاقتراب منه و هو يأكل و تفر منه زوجته و هو جائع و هاهو قد اعتلى شرفا ( مكانا مرتفعا ) يتلمس بأنفه رائحة الطعام ما دام سمعه لا يسعفه بشيء و قد نمت له الريح على رائحة طعام ( شظية و بهما ) تأتي من جهة السماوة فهز من جسمه و راح يمشي متمايلا ( يدأل ظالعا ) في اتجاه الرائحة و هو سواء كان أكلا أو باحثا عما يأكله يسعى دائما في اتجاه روائح الطعام و لا يعبأ في سبيل ما يسعى إليه بأية مخاطرو يقتحم ما يتهيب الجبان اقتحامه من الغمرات وسلاحه في أثناء سعيه الحثيث تحت جنح الظلام إلى الحي فمه و مخالبه ، و حين وجد الأمر فوضى مضطربة في الحي تخلى عن رويته من شدة حاجته إلى الطعام ( إن الحريص مسارع ) و يختم الشاعر لوحته البديعة التي رسمها لذئبه.
و أطلس ما في سعيــه غيـــر أنه
يضيق عليه الرزق و الخرق واسع
تجافى أخوه حرصه و هـو طاعم
و تهرب فيـــــه عرسه و هو جائع
علا شرف البيــــــــداء يسأل أنفه
بيانا و قد أكدت عليـــــــه المسامع
فنمت إليـــه الريـــــــح أن شظية
و بهما بأكناف السمـــــــــاوة طالع
سرى ما له تحت الظلام وسيــلة
إلى الحي إلا خطمــــــه و الأكارع
و أبصرها فوضى فسارع تاركا
رويته ، إن الحريــــــــص مسارع
و يختم الشاعر لوحته البديعة بأن فارسا و ربما ذئبا سريعا ( كصدر الريح ) انضم إليه يريد مشاطرته فريسته فقتله ، و يبدي الشاعر إعجابه بالذئب الذي تخيله فارسا فتمنى لو أنه قتل في معركة حقيقية دفاعا عن أمر يدعو إلى الفخر (المجد):
رأت قدره فانضم يسـرق شطره
أزل كصدر الريــح بالخيـــل بارع
فويلمه لـــــو كان يــــوم غواره
عن المجد يحمي أو عليـــــه يقارع
ذئب الشمردل
كما أن الأغنام جزء من حياة الصحراء و تربيتها عنصر من عناصر الاقتصاد الرعوي ، كذلك فإن الحيوانات المفترسة و في مقدمتها الذئب تمثل أحد الأخطار التي تهدد اقتصاد سكان البادية ، و إذا عددنا حياة الصحراء بمثابة لوحة فنية فككل اللوحات يوجد دائما اللون و نقيضه و من خلال الصراع بين الألوان و نقائضها تبرز ملامح اللوحة و ينكشف عمق دلالاتها االجمالية و الفكرية ، و الشمردل في أرجوزته الصغيرة يحكي لنا قصة قصيرة فيها بعض الإثارة ، فقد نام قريبا من أغنامه بعد أن سمر جزءا من الليل مع أصحابه و لكنه شعر منها بحركة غير معتادة بالليل فعرف أنها استشعرت خطر الذئب فنهض عجلان و بقايا النعاس في عينيه و من عجلته سقط إزاره ، بالفعل كان هناك ذئب رمادي سريع الحركة يروح و يجيء يريد فرصة للانقضاض على الأغنام و الفتك بها فكأنه في سرعته الريح العاصفة المحملة بالغبار و قد قدم لنا الشاعر في الصورة الجزئية الأخيرة معلومتين مهمتين عن الذئب الذي رآه الشاعر فتعبير( إعصار ريح ) تشير إلى حركته السريعة و(أغبر) هي صفة المشبه به ( الريح ) التي لون ( المشبه ) أي لون الريح و الذئب في آن معا:
هل خبر السرحان إذ يستخبر
عني و قد نام الصحاب السمر؟
لما رأيت الضأن منه تنفر
نهضت وسنان و طار المئزر
و راع منها مرح مستيهر
كأنه إعصار ريح أغبر
و قد بات الشاعر يطرد الذئب و يدفعه عن شياهه فيذهب و يعود مما يدل على شدة جوعه ، و عندما أيقن الشاعر أن لا عذر له في هذه المعاملة الهينة للذئب المصر على الإلمام بالغنم و الفتك بها لا سيما أنه يعرف أن من عادة الذئب عدم الاكتفاء بفريسة واحدة بل إنه لو ألم بالغنم فسيفتك بعدد كبير منها بالرغم من أنه مهما بلغ به الجوع لن يأكل أكثر من واحدة ، عندما أيقن بذلك قرر أن يضع حدا للأمر فلا يعقل أن يظل طول الليل في كر و فر مع الذئب فأوتر قوسه و وضع فيها سهما أطلقه على الذئب فأصابه ، لذلك هرب و هو يتعثر في جريه بسبب إصابته البالغة ، و حظي الشاعر بعد ذلك ببقية ليلة آمنة هانئة:
فلم أزل أطرده ويعكر
حتى إذا استيقنت أن لا أعذر
وإن عقرى غنمي ستكثر
طار بكفي وفؤادي أوجر
ثمت أهويت له لا أزجر
سهما فولى عنه وهو يعثر
وبت ليلي آمنا أكبر
والمتأمل لأبيات الأرجوزة القصيرة يجد أن العناصر الأساسية للقصة القصيرة متوافرة فيها بدءا من المدخل المشوق ومرورا بالأحداث المتصاعدة حتى ذروتها (العقدة) ثم الانحدار نحو النقطة التي تنحل فيها عقدة الأحداث (الخاتمة).
————————-
البحتري ( 205 – 284 ھ ) هو لقب أبي عبادة الوليد بن عبادة ، و يعد من أشهر شعراء العصر العباسي بل أشهرهم لى الإطلاق هو و أستاذه أو تمام ، و قد عرف البحتري بطلاوة شعره و قدرته الفذة على الوصف و التصوير و كان في حياته مقربا من الخلفاء العباسيين لا سيما الخليفة المتوكل على الله.
الشريف الرضي ( 359 – 406 ھ ) هو لقب الشاعر العباسي أبي محمد بن الحسين بن موسى ، كان عالما و أديبا بارعا و فقيها متبحرا و إليه انتهت نقابة الأشراف في حياة والده ، يعد الشريف الرضي من أشهر شعراء الطالبيين على كثرة المجيدين فيهم .
ابن نباتة السعدي ( 327 – 405 ھ ) هو الشاعر أبو النصر عبد العزيز بن عمر بن نباتة من بني سعد من قبيلة بني تميم ، كان شاعرا محسنا مجيدا جمع بين جزالة اللفظ و جودة المعنى ، يعد من خواص الأمير سيف الدولة الحمداني و جلسائه ، يغلب على ديوانه المديح و قد ولد و توفي ببغداد .
الشمردل بن شريك بن عبد الملك من بني ثعلبة بن يربوع ( توفي نحو سنة 80 ھ ) و كان يعرف أيضا بابن الخريطة لأنهم وضعوه و هو صغير في خريطة ، شاعر و راجز مقتدر صحيح اللغة متين السبك ، اشتهر بالهجاء و له مراثي و طرديات حسان و قد عاصر جريرا و الفرذدق .