الأخلاق في عصر التكنولوجية

الأخلاق في عصر التكنولوجية

 د. فخري أحمد شهاب   

اللوحة: الفنان السعودي رياض خالد حمدون

ولد كاتب هذه السطور بعد الحرب العالمية الأولى، ونشأ في عصر ما فتئت قيم العصر “الفكتوري” الخلقية منتشرة ومتبعة فيه، فله لذلك على العصر الحاضر تعليقات يمنعه حب السلامة من الجهر بها. وليس مستغربا، والحالة كما وصفت، أن ألحَظَ فروقا واضحة بين سلوك الجيل الذي ولدت ونشأت فيه، وبين جيل “التكنولوجية الأكترونية” واكتشافات الفضاء المذهلة الذي أعيش فيه اليوم؛ إلا أنه على الرغم من هذا التقدم العلمي الرائع الذي تفخر به العقود الأخيرة، فليس من شك أن التدهور الخلقي في سلوك الفرد والجماعة أيضا، خاصة منذ الحرب العالمية الثانية، مما يستدعي العجب ويدعو للقلق والاستغراب. ولا شك أيضا أن تكنولوجية التخريب مسؤولة عن هذا إلى حد كبير، ولكن المشكلة ليست الأداة، أداة التدمير، بل مشكلة الإنسان المفكر الذي يستخدمها لارتكاب الفظائع التي يُحلّها بالعالم.

تواردت هذه الخواطر إلي وأنا أقرأ سيرة “نابليون”: فقد نفته بريطانيا إلى جزيرة “ألبا” في البحر المتوسط بعد خسرانه المعركة الأولى مع “ولنكتن” ( Wellington )، وقد عومل  نابليون يومئذ بالإجلال الذي يستحقه “إمبراطور سابق”، ومُنِح من الامتيازات (كحق استقبال   الزائرين، واختيار المرافقين، ومخصصات النبيذ، وعدد الخدم والحراس، وحق التراسل  والخدمات الطبية…الخ) ما اعتبر لائقا بمقامه؛ ثم لما سلم بعد خسران معركة “واترلو” الشهيرة، ونفي ثانية إلى جزيرة نائية في المحيط الهادي (سانت “هلنا”) أبقى الساسة البريطانيون المنتصرون الكثير من حاشيته ومرافقيه وامتيازاته الأخرى. واتبعت هذه القواعد الخلقية واستمرت طوال العصر الفيكتوري الذي امتدت آثاره إلى أوائل القرن العشرين.

 وبعد قرن من الزمان تقريبا، أي بعد الحرب العالمية الأولى، وخسران ألمانيا وانتصار الحلفاء فيها، تنازل القيصر، فعبر الحدود إلى هولندا، واختارها منفى له، وانتخبت ألمانيا الجمهورية بعده المارشال “هندنبرغ” الذي قاد الجيوش الألمانية ضد الحلفاء، رئيسا للجمهورية الجديدة، ولم يعترض على ذلك أحد، أو يجد فيه غضاضة. قارن هذا السلوك المحتشم (الذي يذكرك بمكارم الفروسية) وما لقيه القادة الألمان بعد الحرب العالمية الثانية من أحكام الإعدام والسجن مما أثار احتجاجات مختلفة بين شعوب الحلفاء أنفسهم، هذا غير أحكام الإعدام التي لقيها الساسة والقواد العسكريون في اليابان وفرنسا وغيرها، مما يبرر القول إن القرن العشرين قد أدخل قيما ومستويات خلقية دُنْيا لم يعرفها العالم المتحضر على هذا النطاق من قبل. وتواصل هذا التدهور الخلقي حتى انتهى إلى ما نحن فيه اليوم، ولا أريد الاستطراد هنا فأدخل في العوامل التي أدت إلى هذا التدهور، ولكني أريد استرعاء الانتباه إليه فحسب.

انظر إلى الوحشية التي تتميز بها حروب العالم وانقلاباته اليوم، وإلى حجومها، ومقدار تدميرها، وأعداد ضحاياها، وإلى ضياع القيم الخلقية في هذه الفوضى: كان يحكم العالم في يوم من الأيام مبدأ خلقي رائع، وهو أن إسفاف المجرم وفظاعة جرمه، لا تبيح للدولة التي تتبعه ويحق لها معاقبته أن تتبعه بطريقته هو، فتحيد بذلك عن المستويات الإنسانية التي تلتزم بها ويلزمها بها العرف، بل عليها التقيد بالقانون وتطبيقه تطبيقا دقيقا وفي كل خطوة.

 هذا المبدأ الخلقي الذي بنيت علية نظم التشريع منذ عهد الرومان، والتزمت به المجتمعات في العصور الوسطى في ظل الكنيسة الكاثوليكية في العالم الغربي، هذا المبدأ الخلقي السامي المتحضر قد ضُرِبَ به عرض الحائط في عصر تزدهر العلوم الطبيعية فيه، وأصبح وصمُ المتهم بأنه مجرمٌ مبررا خلقيا وقانونيا لتتبعه، لا لمحاكمته بل لقتله – كأن الاتهام وحده يبيح القتل. ولا داعي لتعقيد الحديث بإقحام “كوانتانمو” هنا، فقد فتح فصلا جديدا في تأريخ التعسف الحكومي. 

الحمق الذي ينطوي عليه نبذ العرف الخلقي القديم، واتباع سياسة التشفي والانتقام، هو أنه يزيد من روح البغضاء، ويسمم الخصومة بسموم كان من السداد تجنبها لتفادي توسيع شقة الخلاف، وإطالته وتوسيعه وزيادة مرورته! هذا الحمق هو ما يميز الصراعات الدائرة في زماننا. وهي ليست جديدة في التاريخ، ولكن بينما كانت استثناء مستنكرا فيما مضى، هي القاعدة الشائعة المتبعة في عصرنا الشقي. وهذه من كبرى مآسي العصر الحاضر.

 أنا أدعو إلى الحوار بين الأطراف المتخاصمة لسبب عملي – إنساني: فتبادل القتل والتخريب لن ينهي الخصومات، ولا بد من أن ينتهي القتال يوما ما بعقد مؤتمر للوصول إلى حل يُتَفَقُ عليه، فلم لا يلتئم هذا المؤتمر بأسرع ما يمكن للإقلال من الضرر، خاصة وأن الضرر يمتد ليشمل أطرافا بريئة لا دور لها في النزاعات الدائرة؟

وثمة فكرة أخرى حرية بالذكر هنا لما لها من أثر على سير الحوار ونتائجه. هذه الفكرة لا تخص موضوع الحوار، بل أسلوبه.  جاء في الأثر ما معناه: لا تمارئ أخاك، فإن اضطررت إلى الجدال، وكنت محقا، (أي أن الحق كان لك)، فاستعن في البرهان على حقك وكسبه بالتواضع في شرح موقفك؛ والتواضع ويا للأسف، ليس مما يعرف به العرب، لأنهم يحسبونه تذللا لا يليق. وأنا أرى هذه “السيكولوجية” سببا من أسباب فشل مفاوضات السلام مع الإسرائيليين. فالعرب يحضرونها متفضلين متعالين: لا لأنهم المنتصرون، بل لأنهم أصحاب الحق – وهذه فاتحة تخلو من البراعة في التفاوض، وتستفز الخصم مقدما، وتدفعه إلى التعنت والتمسك بموقفه، فتفقد المفاوضات المرونة الضرورية لاستمرار الحوار.

وهناك أحوال أسوأ مما ذكرت، وذلك حين يعلن أحد الطرفين في النزاع مقدما أنه لا رغبة في الحوار له، ويرفض الاجتماع بالطرف الآخر علانية، في حين أنه يكون مشتركا في حوار سري لا يُعْلَنُ عنه.

ما أريد أن أقول باختصار إن ما يسميه العرب بـ “آداب” الحوار” أو “طريقة الحوار” عامل ذو أهمية كبرى على سيره، وبالتالي نتائجه، وهي حقائق غير معروفة (أكاد أقول مجهولة جهلا تاما) في المجتمعات العربية، وهذا يفسر كثرة النزاعات في مجتمعاتنا وعنفها أيضا إلى حد كبير.

وأود أن أنهي هذا الحديث بقصة رواها لي البرفسور “كونار هكشر- الابن”  ( Gunar Heckscher ) الذي كان رئيس حزب المحافظين في السويد، لألخص الفروق في الحوار، واختلاف طبيعته في المجتمعات المختلفة. قال اتفق أنْ انْتُدِب ذات مرة ليمثل أرباب العمل في نزاع بينهم وبين إحدى نقابات العمال المختصة. قال تم الاجتماع بين الطرفين ووصلنا إلى حلول ترضي المتنازعين في أول نصف ساعة من الاجتماع، ولكن الطرفين في الاجتماع اتفقا أن من الحكمة كتمان الخبر عن الرأي العام ووسائل الإعلام وعمن كنا نمثلهم، وذلك لئلا يستهان بما وصل المؤتمر إليه من قرارات لو كانت أعلنت فور الوصول إليها، واكتفينا بإصدار بلاغ أن المفاوضات تجري بشكل مرضٍ، ولكن الطرفين يحتاجان إلى بعض الوقت قبل الوصول إلى مقررات نهائية؛ واستمرت الحالة كما وصف: المقررات تم الوصول إليها، والاتفاق منته، ولكن الإعلان عنه أجل إلى أسبوع (أو قال أسبوعين) لخلق انطباع عما كان يواجه المجتمعين من تعقيدات، في حين أنهم كانوا يجتمعون لشرب القهوة والتندر والمزاح! هذا ما يتم في السويد؛ أما الحالة في بغداد ومزار شريف والشام…الخ فمختلفة اختلافا يدمي القلوب – وله عز وجل في خلقه شؤون لا يعلمها إلا هو!

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.