رضا يونس
اللوحة: الفنانة السعودية زهراء البناي
“حصل ميدو على أعلى الدرجات وارتقى ثلاثة مراكز، قفز بها إلى الترتيب الثاني متفوقا على أقرانه فى الصف الثالث الابتدائي.. وعدته أمه من قبل بجائزة غير متوقعه إن هو اقتحم المراكز الخمسة الأولى، مع تصاعد القيمة المادية والمعنوية للجائزة كلما لامس حدود الصدارة.. ظل ميدو يُعمِل خياله الطفولي، الذي نَحَى به إلى نوعية الجائزة المفاجأة.. قذفت به أفكاره الحالمة إلى دراجة بخارية من نوع (جاكوار) كانت قد خلبت لُبّه ذات مساء حينما ارتقاها في ملاهي السندباد.. لَكَمْ تمنّى ساعتها أن تسكن غرفته الصغيرة، تشاركه مشاويره التي تشبه أحلامه، إلّا أنه أدار محرك حلمه صوب طائرة تحلق دونما طيار، وسيكتفي هو بأن يكون قائدها الأرضي بجهاز تحكم عن بعد.. غير أنه يعلم تماما حالة السأم التي قد تصيبه من تكرار ممارسة تلك الألعاب الجامدة الأقرب إلى الموات، ليتمنّى لعبة تمنحه حياة وحيوية متجددة.. لعبة تناجيه وتحاكيه.. أخيرا استسلم ميدو للمفاجأة، تاركا الاختيار لأمه التي ما انفكّت تحسن الاختيار في كل مناحي حياته.. يسمع ميدو وقع خطوات أمه تصعد الدرج، تقترب من الباب .. صوت المفتاح يعبر مسارة.. حركة المزلاج تبطئ.. ها هو صوت صرير اعتاده من احتكاك مفصلي الباب، لكنه على غير عادته يقلل من عوامل الاحتكاك، ربما مشاركا فرحة ميدو بالجائزة المرتقبة.. تقبل الأم على مهل بابتسامة تكبح جماحها؛ خشية ألا تروق جائزتها غير التقليدية لذوق ميدو.. تتقدم الأم حاملةً بين ساعديها صندوقا غطته بقطعة قماش خضراء.. دقات قلب ميدو تخفق.. شهيقه وزفيره يتسابقان أيهما ينال الصدارة؛ لكشف شفرة تلك المفاجأة.. تطلب الأم من ميدو أن يغمض عينيه، فيستجيب ويستجيب معه قلبه الصغير الذي ضاعف من كمية ضخه.. تضع الأم إحدى يديها على شراع عينيه، والأخرى تنزع قطعة القماش، ثم تطلب من ميدو أن يبسط عينيه، فيبصر صوت المفاجاة، صوصوة ثمان أفراخ من الكتاكيت من نوع “ساسو” يقفز ميدو ثمان قفزات تزداد مع كل قفزة سنتيمترات لأعلى.. إنها هي.. اللعبة الحية التي لطالما غزت أحلامه.. ظل ميدو يتلقى دروس التعامل مع تلك الأفراخ من أمه . كيف يطعمها. كيف يسقيها كيف يدفئها.. كيف يتعهدها بالرعاية؟
في خِضَمِّ فرحة ميدو تذكر معلمته إلهام الديك، صاحبة الفضل الأول فيما وصل إليه من قفز الحواجز، متخطيا رقاب المتفوقين حتى هدد صاحب المركز الأول.. دعا أمه وأشار عليها بأن يمنح معلمته إلهام هدية مقابل جهودها العلمية والمعنوية، فسُرّت أمه، قائلة: وماذا تقترح لأشتريه لك وتقدمه أنت لها؟
قال: بل سأهديها أنا كتكوتا من أفراخي..
ثم أمسك أصغرها وقد أوشك على المغادرة، يبدو أنه قد أصيب بالإسقربوط، فأراد ميدو أن يتخلص منه ويبقى الأصلب عودا، ظنا منه أن المعلمة ستعيد إليه الحياة كما أعادتها له من قبل..
في اليوم التالي توجه الصغير إلى المدرسة قبل الجميع، فهو يعلم يقينا أن الأستاذة إلهام الديك ثاني شخص يمرق من البوابة الرئيسية عقب من يمرر المفتاح في قفلها، تنتظر قدوم أطفالها، تعانقهم حبا، حتى ترويهم من قطرات نداها، لتتفتح قلوب تلك الزهور اليانعة، فتنفتح عقولها لمنهج الحب الذي انتهجته سبيلا..
يدخل ميدو من البوابة الرئيسية، ليجد المعلمة، وقد وقفت باسطةً ذراعيها لعابر فؤادها الأول، الذي يحمل صندوقا صغيرا مغطىً بقطعة من الحرير الذي يشبه صفاء السماء وموج البحر.. تمنحه قبلتين هوائيتين، فيرد فعلها بأحسن منه، دفعات من قبلات صفراء بخطوط خضراء، والصندوق زيادة..
معبرا عن شكره لصنيعها، وكيف أنها خلقت من ذاك التلميذ المتكاسل عقله، والمصنَّفُ في السابق متأخر دراسيا، إلى عضو جديد في نادي الخمسة- الأوائل –
- معلمتي وملهمتي، تقبلي مني تلك الهدية الحية، كتكوت يشبهني حينما أصابني في الماضي هزال الكسل، يحتاج دعمك؛ ليدخل عالم الأقوياء..
يبدو على إلهام الديك الرضا التام عن هدية ميدو، فتمسك ذاك الهزيل.. تمنحه قبلة الحياة، ومن ثم تعيده إلى صندوقه المؤقت، لتعانق ميدو عناق من أسدى إليها معروفا.. وعدته بأن تعيد إلى كتكوته ريق الحياة من لعاب سويدائها.. حقا فتلك المفاجأة نادرة الحدوث عظيمة المعنى..
في نهاية اليوم الدراسي حملت الكتكوت إلى بيتها، هي وصغيرتاها يحكم به، في حفل استقبال ملكي، لذاك المقاوم لسكراته، لكن إلهام تعلم كيف تعدل المسارات، فتحيل الموات حياة، والجدب خصوبة ونماء.. في خلال أسبوع واحد أعادت وطفلتاها الروح للكتكوت.. وكيف لا وقد وجد حنوا تمزجه بغذائه فيختلط بجيناته، لتنمو أعضاؤه سويَّةً ومعها مشاعر كتكوبشرية مختلفة عن رغبات الدواجن الطبيعية.. حسنا بات الكتكوت ديكا مراهقا، ينصت مليا لخطوات إلهام وهي تصعد الدرج، وتقترب من الباب، ليستمع إلى موسيقي مفتاح الشقة وهو يعزف على أوتار المزلاج، ليبدو الباب كباب الريان يفتح مكافأة للصُّوَّام، ها قد صام ظهيرة ذاك اليوم عن مداعبة إلهام.. حُقَّ له أن ينال مكافأته على صبره.. يجري قافزا تجاه رضوانه، مُصدرا صوت مزيج من النواح والبهجة.. تحتضنه إلهام ثم تقدم له وجبته الشهية من حبوب القمح اللذيذة، ثم بعض حبات من الذرة الشامية.. وحسا حسوات من الماء النقي المفلتر إلا من حبها..
تتوالى الأيام ويزداد الديك حجما، ومعه تزداد مخرجاته وفضلاته المؤذية للجميع، إلا أن إلهام كانت تجابه ذلك ببذل مزيد من الجهد لتنظيف تلك الفضلات.. لم تكبت حريته يوما، وما ينبغي لها..
تُلْقِي إلهام جسدها المرهق من أعمال البيت ووظيفتها المجهدة لأعضائها وأحبالها الصوتية، فتذهب في سُبات عميق.. بعد سويعات، تستمع إلى صوت أنات بجانبها.. تفيق على صوت الديك ينازع شيئا ما لا تدركه، تقترب منه، فتجد عبرتين وقد تحجرتا عند أعلى منقاره.. شعرت إلهام بانقباض قلبها، فأعطته بعض الفيتامينات، لعله يهدئ من سُعاله ..
في هذه الأثناء تلقت مهاتفة من أمها، تخبرها بأنها ستزورها اليوم.. رحبت إلهام بالزائر الجميل ومَنَّتْ نفسها بوليمة غداء مميزة، كانت والدتها ذات نَفَسٍ لا يُبارى في الطعام..
بعد انتهاء فترات اليوم الدراسي الشاق الذي لم تجد فيه برهة، لتناول قضمة طعام تعينها على المتابعة.. عادت إلى البيت وأصوات العصافير تعزف لحن الجوع في معدتها الخاوية.. هرولت مباشرة إلى مائدة الطعام، ولأول مرة منذ سكن عالمها هذا الكائن الداجني، لم تعرج عليه لتمنحه قبلة الحياة اليومية.. الله! ياله من لحم دجاج لذيذ، لم تذقه من قبل! نظرت إلى سيدة الطهاة شاكرة لها امتزاج نَفَسِها بهذه الوجبة الفائقة اللذة قائلة، ما ألذَّ شرائح الدجاج تلك يا أمي! من أين اشتريت هذه الدجاجة اللذيذة؟
الأم.. ليست دجاجة يا بنيتي.
إلهام.. كيف ذلك؟!
الأم.. إنه لحم ديك طازج ..
إلهام يزداد محيط حدقتيها الدائريتين، ضاربة كفها الأيمن بصفحة صدرها.. إياك أن …؟
الأم.. نعم فقد سمعت صوته ينازع، خشيت أن ينفق قبل أن نستفيد بلحمه المكتنز، فأسرعت إليه بسكين المطبخ وبقية القصة في فمك ومعدتك التي أقبرته.