سعد عبد الرحمن
اللوحة: للشاعر والفنان الإنكليزي وليم بليك
التمرد سلوك مرتبط بالوعي فلا يتمرد إلا الإنسان الواعي، والوعي مفهوم مركب يختلط فيه النزوع إلى رفض الواقع بالرغبة في تغييره، مع قدر كبير من التحفز والجرأة والحمية والذكاء الحاد الذي يستبطن خبرة نواتها الحدس الصادق. كما أن التمرد كسلوك في تعارض دائم مع السلطة أي سلطة، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية أو غيرها، لأن السلطة تخشى حدوث أي تغيير في العناصر أو الظروف التي أسهمت في وجودها، فهذا من شأنه أن ينذر بتدهورها والتدهور يفضي إلى الانهيار. وتمرد الشعراء قديم، يأخذ تمردهم عدة أشكال أفاض في الحديث عنها د. محمد أحمد العزب في أطروحته للدكتوراه، وكان عنوانها “ظواهر التمرد في الشعر العربي المعاصر”، وبين أن تمرد الشعراء يتجلى في ثلاثة مجالات رئيسية هي: الشكل والمضمون واللغة. وتبرز في مجال المضمون ثلاثة أشكال للتمرد هي: التمرد الاجتماعي والتمرد السياسي والتمرد الميتافيزيقي، و يدور التمرد الأخر أساسا حول ثلاثة محاور هي: تمرد “التساؤل” وتمرد ”الموقف” وتمرد “الرفض”.
بعيدا عما أورده د. العزب في أطروحته من نماذج للتدليل على تلك الأنواع الثلاثة من التمرد فإن من أشهر المتمردين في شعرنا العربي المعاصر الشاعر أمل دنقل ومن أبرز نماذج التمرد الميتافيزيقي في شعره افتتاحية قصيدته الشهيرة “كلمات سبارتكوس الأخيرة” التي جاءت تحت عنوان “مزج أول” ويقول فيها:
المجد للشيطان معبود الرياح
من قال: لا في وجه من قالوا: نعم
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال: لا، ولم يمت
وظل روحا أبدية الألم
يتبنى أمل هنا موقف الشيطان حين تمرد على خالقه – جل و علا – فأبى و استكبر أن يطيع أمره بالسجود لآدم (وإذ قلت للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر) محتجا بأنه أفضل منه وأشرف في درجة الخلق فهو مخلوق من النار بينما آدم مخلوق من طين و النار أشرف من الطين (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )، وقد ناقش بعض علماء الإسلام قضية أفضلية النار على الطين و عدوها حجة باطلة و فاسدة عقلا و فصلوا وجوه البطلان والفساد، وبنى علماء آخرون – كابن تيمية و تلميذه ابن قيم الجوزية الذي ألف كتابا بعنوان “حجة إبليس” – وجهة نظرهم في البطلان والفساد على رفضهم “معارضة النص بالقياس”، وعلى خلاف ذلك ذهب فريق المتزندقين من كتاب وشعراء مثل بشار بن برد إلى الانتصار للنار على الطين حين قال:
إبليس أكرم من أبيكم آدم
فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة
والطين لا يسمو سمو النار
على أن بشارا حين فعل ذلك عد أفضلية النار على الطين أفضلية بدهية لا تحتاج إلى برهان ولذلك فهو لم يبين لنا لماذا في معتقده لا يسمو الطين سمو النار؟.
أما أمل دنقل – من وجهة نظري – و إن كان لا يتماهى تماما مع الموقف و لا يعقد عبر تبنيه للموقف صفقة مع الشيطان كما فعل “فاوست” إلا أنه من الواضح معجب مفتون خلبت لبه عزة الشيطان بأصله – و إن كانت عزة بالإثم – و بهرته جرأة الشيطان المتمثلة في عدم الانصياع لأمر الإله و استعداده لتحمل العاقبة الوخيمة و قد كانت العاقبة أنه ( كان من الكافرين ) واستحق لذلك الطرد من الجنة مرجوما ( اخرج منها فإنك رجيم ) وأن تحل عليه لعنة رب السموات و الأرض الأبدية ( و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين ) ، و يتضح تمرد أمل الميتافيزيقي من أول النص فهو يبدؤه بتمجيد إبليس حين يقول ( المجد للشيطان ) و يصف الشيطان الذي يمجده بـ ( معبود الرياح ) بكل ما تحمله مفردة الرياح من معان و دلالات و لكنه ليس تمجيدا مجردا بل تمجيد مسبب في الحقيقة ، إنه يمجد الشيطان لأنه تمرد و قال ( لا )، و لم يشأ أمل أن تكون ( لا الشيطان ) في وجه خالقه جل و علا بل جعلها في وجه الملائكة الذين استجابوا للأمر الإلهي ( في وجه من قالوا : نعم )، وهذا يدلنا على أن تمرد أمل في هذا النص القصير تمرد حذر ؛ تمرد محدود بدليل أمرين: وصف الشيطان بأنه (معبود الرياح) ومفردة الرياح بكل حمولاتها المعنوية محايدة، وهي بالطبع أخف واسلم من أن يقول (معبودي) وقوله (في وجه من قالوا نعم) بدلا من أن يقول (في وجه الله)
ومن يتأمل التمرد الذي تتضمنه الأبيات القليلة السابقة يجد أنه لا يستغرق سوى جزء صغير من النص اتخذه أمل مدخلا أو مقدمة منطقية في بناء رؤيته داخل القصيدة وهي رؤية اجتماعية سياسية في جوهرها يناقش من خلالها قضية التمرد على سلطة الاستبداد والقهر نزوعا إلى الخلاص من ربقة العبودية وامتلاك زمام الحرية ولكن نص القصيدة مفعم بروح التشاؤم و خيبة الأمل المريرة:
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان
مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الإسكندر الأكبر
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت
قيصر جديد
وخلف كل ثائر يموت
أحزان بلا جدوى
ودمعة سدى
وينتهي أمل في آخر نصه إلى نتيجة يكون فيها المصير الحتمي لـ “سبارتكوس” رمز التمرد الإنساني على الأرض هو الموت محني الجبهة على المشنقة ولا يخفى هنا التداخل بين شخصية سبارتكوس وشخصية “المسيح المخلص” الذي صلب – في المعتقد المسيحي – من أجل خلاص العالم ليس في مجرد النهاية الواحدة على خشبة الصليب و إنما في رسالة كل منهما إلى الناس قبل النهاية المحتومة و بعدها بضرورة رفض الإنسان مادام حيا الرزوح تحت نير العبودية سواء أكانت العبودية جسدية أو عقائدية و أيا كانت الإغراءات والحوافز:
معلق أنا على مشانق الصباح،
وجبهتي بالموت محنية
لأنني لم أحنها حية.
وقريب من هذا في جزئيته تمرده الميتافيزيقي حين قال في مفتتح قصيدته ” الخيول ” متحدثا عنها بوصفها رمزا للفتوحات الانتصارات وعلامة على المجد العربي زمن شموخه:
الفتوحات مكتوبة بدماء الخيول
حدود الممالك، رسمتها السنابك
والركابان ميزان عدل
يميل مع السيف حيث يميل
فاركضي أو قفي الآن أيتها الخيل
لست المغيرات صبحا
ولا العاديات كما قيل ضبحا
وفي السطور السابقة يقدم أمل الخيول في صورة مناقضة لصورتها التي وردت في النص القرآني بسورة العاديات ( تناص مغايرة ) ، ففي الجزء الأول من السورة يقسم رب العزة – جل و علا – بالخيول (والعاديات ضبحا؛ فالموريات قدحا؛ فالمغيرات صبحا) فيصفها في قسمه بأنها العاديات ضبحا و أنها الموريات قدحا أي التي تقدح سنابكها الشرر حين تصطدم في عدوها السريع بالأرض الصخرية الصلبة و بأنها أيضا المغيرات صبحا في الغزوات، و هذه الصورة التي كانت عليها الخيل حين كانت وسيلة الغزوات و الفتوح و حين كانت سنابكها في ميادين القتال حيث تتطاحن الجيوش أداة فاعلة في رسم حدود الدول والممالك، وحين كان الركابان على جانبي الخيل يمثلان كفتي ميزان العدل؛ هذا الذي من عادته أن يميل إلى جانب السيف ( رمز القوة ) حيث يميل، إنه ميزان الواقع الذي يكون فيه لكفة القوة الرجحان على كفة الحق أو بتعبير آخر: ميزان الواقع الذي يكون فيه الحق دائما حيث تكون القوة (والركابان ميزان عدل، يميل مع السيف حيث يميل)، وينفي أمل في صورته النقيض الصفات الإيجابية التي كانت عليها الخيول من قبل (وقد سجل أمل هذه الصفات الإيجابية في المقطع الذي يبدأ بقوله : كانت الخيل كالناس في البدء حتى قوله: تتنفس حرية مثلما يتنفسها الناس) فقد جردها الزمن الذي لم يعد زمنها من تلك الصفات الطيبة واستبدل بها صفات غير طيبة أو تافهة القيمة فلم تعد تصلح الخيل بعد إلا للزينة واللعب وتسلية السياح (تماثيل من حجر، أراجيح من خشب، فوارس حلوى، حصانا من الطين )، و نلاحظ أن أمل أغفل ذكر اسم القائل الجليل حين بني الفعل ” قال ” للمجهول فصار ” قيل “، و ربما يقال دفاعا عن أمل أو من قبيل الدفاع عنه إنه في نصه لا يرفض عقديا صورة الخيول كما جاءت في النص القرآني وإنما هو يوظفها فقط في الدلالة على التحول المؤسف من صورة مشرفة إلى صورة نقيض يزيد هو من تأكيدها حين يضيف قوله:
ولا خضرة في طريقك تمحى
ولا طفل أضحى
إذا ما مررت به يتنحى
وهذا بالفعل صحيح و لكن اختيار المرء قطعة من عقله كما يقال ، و أمل اختار هذا الأسلوب بالتحديد من بين أساليب شتى كثيرة متاحة له كشاعر للحصول على الدلالة التي يريدها حتى و إن كانت بدرجة أقل في القوة و الوضوح ، لذا فلا سبيل إلى إنكار أن هذا نموذج من نماذج التمرد الميتافيزيقي ينحاز فيه الشاعر إلى التضاد أو الاختلاف في مضمون نصه مع مضمون النص المقدس ، و التمرد الميتافيزيقي في هذه السطور من نص الخيول ليس بالقطع تمرد تساؤل و لا تمرد رفض و إنما تمرد موقف ، و يتماس أمل هنا في نوع تمرده الميتافيزيقي مع الشاعر جميل صدقي الزهاوي في كثير من نصوصه الفلسفية فهو مثله لم يجنح إلى التساؤل اللا أدري الشامل كما فعل إيليا أبو ماضي و لم يجنح إلى الرفض المنكر الشامل الذي يتصدى للألوهية بالمصادرة و الإنكار كما يقول د. العزب، هو لم يغادر حظيرة الإيمان و لكنه يتخذ موقفا من بعض الأمور و القضايا التي تستعصي على فهمه حكمة الإله في حدوثها على هذا النحو أو ذاك مثال على ذلك قوله (الله لم يغفر خطيئة الشيطان حين قال: لا)، فالجملة تدل على أنه مؤمن بالإله ولكن حكمة عدم غفرانه خطيئة الشيطان قد استعصت على فهمه، فالشاعر بوصفه مسلما يعرف أن الله يغفر الذنوب جميعا وأن الله هو الغفور الرحيم.