أمل بشير
اللوحة: الفنان الروسي ناثـان آلتـمـان
نظرت إلى ذلك الصندوق الخشبي الصغير، الموضوع على التسريحة أمامها وابتسمت، قامت من فراشها بعد أن كان النوم يداعب أجفانها، ويرسم لها من الأحلام صورة تجذبها نحوه،
مدت يدها، ورغم قربه شعرت أن الزمن قد توقف وكأنه في بعد آخر، كأنه كان يتحرك بالاتجاه المعاكس ليمنعها من الإمساك به، ولكنها أخيرا وصلت اليه.
كانت يداها ترتجفان، وتدمع عيناها وهي تنظر إليه، شعرت لوهلة أن قلبها قد غادر قفصه، وأن أنفاسها قد توقفت، شعرت بالغثيان والهذيان، تضاربت المشاعر حتى لم تدر ما تشعر به.
حتما، فهو صندوق أسرارها، إنه الصندوق، حيث باحت بداخله بكل ما لم تستطع أن تحدث نفسها عنه، صندوق يحمل ذكرياتها التي خبأتها حتى عن نفسها، طمرتها بأحداث كثيرة؛ لتمنعها من العودة يوما ما، لكنها كانت تعلم دوما أنها موجودة في داخل ذلك الصندوق.
صندوق مزخرف من خشب البلوط، كان هو من أهداها إياه؛ ليكون قبرا لكل ذكرى جمعتهما معا، ولكل ذكرى أرادتها أن تدفن ولا تعود للحياة بعد ذلك.
ارتعشت، وشعرت بسحابة ماطرة غطت عينيها، انهمرت دموعها غزيرة، تجرف كل ملامح النوم التي كانت تكسو وجهها؛ لتحل محلها ملامح أخرى مختلطة، ملامح العودة من الموت، ملامح شبح الماضي وطيف الذكريات.
اكتشفت في تلك اللحظة أنها لا تحتاج أن تفتح الصندوق، فكل ما فيه موجود في قلبها وعقلها حيث أخفته، وبمجرد أن حملت ذلك الصندوق؛ عاد الميت حيا، وما عاد لذلك القبر الخشبي أي أهمية.
نظرت إليه مرة أخرى، وتذكرت كم مرة أرادت أن تتخلص منه، ولكنها أرادت في أعماقها أن تحفظ تلك الذكريات، لذلك احتفظت به سنين عديدة.
أدركت أن قلوبنا وعقولنا تبقى دوما منزلا يحمل كل ما مر علينا من أحداث وأسرار، يحفظها ويخبئها، لكنه يرعاها، يحميها من عوامل الزمان وتعاقب الأحداث.
عندها نظرت لذلك الصندوق، وعلمت أنها لم تحتجه يوما، فتحت أحد أدراج التسريحة، ودسته فيه ليبقى هناك كأي غرض آخر موجود بتلك الأدراج، أغراض لا أهمية لها، لا نستطيع التخلص منها، قد نحتاجها يوما وقد ننسى أنهاموجودة من الأساس.
أغلقت الدرج وكأنها تغلق صفحة من كتاب حياتها، كأنها أنهت فصلا من ذلك الكتاب وتستعد لتقرأ فصلا آخر، ابتسمت، وعادت لفراشها عل النوم يقبل عذرها ويعود من جديد؛ ليحملها في رحلة أحلامها لعالم أجمل وأكثر روعة.