سعد عبد الرحمن
اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس
يعد أمل دنقل من أشهر المتمردين في شعرنا العربي المعاصر، وتناولنا في الجزء السابق من هذه الدراسة جانبا من تمرده الميتافيزيقي وتوقفنا عند قصيدته الشهيرة “كلمات سبارتكوس الأخيرة” وتحديدا عند مقدمتها، التي افتتحها بتمجيد الشيطان، لكن هذا النوع من التمرد بقي على مستوى جزئي من النص – في افتتاحيته – فيما خلا باقي القصيدة وموضوعها منه.
أما التمرد الذي جاء على المستوى الكلي للنص، فهو ما يتمثل في قصيدته “مقابلة خاصة مع ابن نوح”، وابن نوح في النص القرآني رغم أنه أقرب الناس لحمة إلى نبي الله نوح، إلا أنه تمرد على دعوة أبيه كنبي مرسل، وهو الذي يفترض فيه أن يكون أول الناس إيمانا به، وأشدهم تصديقا له في دعوته؛ لأنه ابنه الذي رباه وعايشه كما لم يعايشه أحد غيره، وتمرد أيضا على نداء أبيه أن يركب السفينة معه ومع المؤمنين، ذلك النداء الذي أملته على نوح فطرته كأب يخشى على ابنه من الغرق، فكل ما يريده لابنه هو أن ينجو من الموت الذي هو مصيره إن لم يركب معه السفينة وانحاز إلى الكافرين: “يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين”، لقد انحاز ابن نوح إلى قومه الضالين، وظن أن بإمكانه تجنب الموت حين رد على نداء أبيه بقوله “سآوي إلى جبل يعصمني من الماء”، وكانت النتيجة أنه (لا عاصم اليوم من أمر الله)؛ فغرق مع من انحاز إليهم من الضالين الكافرين “وحال بينهما الموج فكان من المغرقين”، تمرد ابن نوح في النص القرآني تمرد ديني نتج عنه مروقه من الإيمان بالله، وبرسالته التي حملها إلى قومه أبوه نبي الله نوح.
يتجلى تمرد أمل الميتافيزيقي في طرحه عبر قصيدته رؤية موازية، ولكنها مناقضة للرؤية كما تضمنها النص القرآني، وفي سياق آخر مختلف، مما يمكن أن نسميه (تناص المغايرة)، سياق الرؤية في النص القرآني هو سياق ديني، والطوفان هو عقاب الله للأشرار (الضالين الكافرين) على عدم استجابتهم لرسالته، والسفينة هي وسيلة نجاة الأخيار (المؤمنين) من الطوفان، وقد أوحى الله إلى نبيه نوح أن يصنعها؛ برغم أنه وقومه يعيشون في منطقة صحراوية لا يوجد بالقرب منها بحار أو أنهار وهذا ما جعل قومه يسخرون منه كلما مروا عليه وهو مشغول بصنعها، أما سياق رؤية أمل في نصه، فهو سياق اجتماعي سياسي، إذ إن الطوفان (كتب أمل النص في منتصف السبعينيات تقريبا مع بداية الانفتاح الاقتصادي، وتوجه النظام المصري آنذاك سياسيا واقتصاديا ناحية الغرب، وقد ترتب على ذلك تدهور الطبقة الوسطى، ونزول شرائح اجتماعية كثيرة تحت خط الفقر، كما ترتب على ذلك نزوح كثير من المصريين في ظاهرة غير مسبوقة للعمل خارج مصر، لا سيما بلدان الخليج العربي) هو الفوضى التي راحت تتدفق عبر الخراب السياسي والاقتصادي للبلاد، فتجتاح كل شيء، ويصور أمل هذا الطوفان في اجتياحه كل شيء في البلد قائلا:
الماء يعلو على درجات البيوت، الحوانيت، مبنى البريد، البنوك، تماثيل أجدادنا الخالدين، المعابد، أجولة القمح، مستشفيات الولادة، دار الولاية، أروقة الثكنات الحصينة”.
ويكمل أمل لوحة الطوفان وهو يجتاح المدينة، من خلال حشد مجموعة أخرى من المشاهد الدالة على حجم المأساة وتأثيرها على الجميع: “العصافير تجلو رويدا رويد، ويطفو الإوز على الماء، يطفو الأثاث، ولعبة طفل، وشهقة أم حزينة”
والهاربون من خطر الطوفان في نص أمل ليسوا الأخيار كما في النص القرآني، بل الأشرار الذين كان استبدادهم وفسادهم السببين الأساسيين في حدوث هذا الطوفان من الفوضى والخراب، هم حاشية النظام المستبد الفاسد، واللصوص، وأصحاب المصالح المستفيدون منه والمتحالفون معه، ومنهم على سبيل المثال:
“المغنون، سائس خيل الأمير، المرابون، قاضي القضاة ومملوكه، حامل السيف، راقصة المعبد”
وبعد أن يعطينا أمل لمحة عن نوعية هؤلاء الأشرار من خلال جملة صغيرة تصف ابتهاج راقصة المعبد بأمر تافه في تلك اللحظات العصيبة: “ابتهجت عندما انتشلت شعرها المستعار” يسوق إلينا بقية رتل الهاربين من الأشرار:
“جباة الضرائب، مستوردو شحنات السلاح، عشيق الأميرة في سمته الأنثوي الصبوح” والجملة الأخيرة مشحونة بالكثير من الدلالات على تغلغل الفساد الخلقي في بلاط الحكم.
ويصف أمل هذه الفئات المرة الأولى بـ “الحكماء”، ويصفهم المرة الثانية بـ “الجبناء”، فنعرف أن وصفه الأول لهم بالحكمة لم يكن وصفا جديا، بل كان في سياق السخرية منهم، فحكمة الهروب وإن كانت في ظاهرها حكمة عقلانية فرضتها غريزة حفظ الذات إلا أنها في جوهرها حكمة انتهازية أملتها أخلاق الجبن والحرص والأنانية، لذا فالسفينة في نص أمل ليست وسيلة نجاة بل وسيلة هروب ونكوص عن مواجهة خطر الطوفان الداهم، ولا غرو فالفئات الهاربة هم المتسببون الرئيسيون في حدوث الطوفان باستبدادهم و فسادهم، والمواطنون أي رجال القبيلة الذين انحاز إليهم ابن نوح فلم يركبوا ولم يركب معهم السفينة، يمثلون في رؤية أمل دنقل الأخيار لا الأشرار، إنهم الذين تشبثوا بالبقاء في الأرض / الوطن وحاولوا قدر استطاعتهم إنقاذ بلدهم من الخراب والدمار:
بينما كنت، كان شباب المدينة،
يلجمون جواد المياه الجموح،
ينقلون المياه على الكتفين؛ ويستبقون الزمن
يبتنون سدود الحجارة
علهم ينقذون مهاد الصبا والحضارة
علهم ينقذون الوطن
وكم كان أمل بليغا في عبارته الموجزة “مهاد الصبا والحضارة” فقد جمع فيها بين قيمتين أساسيتين للوطن تتضاءل في حضرتهما كل قيمة أخرى: قيمة مصر الخاصة بالنسبة له ولكل مواطن مصري مثله كمهد للصبا، بكل ما تحمله مفردة الصبا من عبق الذكريات البريئة، وما تثيره في النفس من حنين وشجن وأحلام وطموحات نبيلة؛ وقيمة مصر العامة بالنسبة للبشرية جمعاء بوصفها مهدا للحضارة، حيث بزغ فجر الضمير الإنساني وفق تعبير المؤرخ الشهير هنري برستيد.
ويتقمص أمل في نصه شخصية ابن نوح الذي تمرد على رغبة أبيه و محاولاته الدائبة أن يضمه إلى زمرة المؤمنين برسالته، فكما رفض ابن نوح نصيحة أبيه بركوب السفينة معه و مع المؤمنين، رفض أمل دنقل نصيحة سيد الفلك بمغادرة البلد الذي فقد روحه حين صاح به “انج من بلد لم تعد فيه روح” لقد فضل أمل (ابن نوح الجديد) ،أن يكون مع أبناء بلده البسطاء، ساخرا من أولئك الذين عاشوا منعمين بخيرات الوطن حين كان الوطن بخير، لكنهم في وقت المحنة أداروا له ظهورهم، ولاذوا بالفرار، وكأن علاقتهم بالوطن علاقة براجماتية؛ علاقة منفعة واستفادة، فلما لم يعد ثمة منفعة ولا استفادة هربوا:
قلت: طوبى لمن طعموا خبزه
في الزمان الحسن
وأداروا له الظهر يوم المحن
فالمجد الحقيقي ليس للانتهازيين والأنانيين الجبناء وإنما لأولئك الذين اتخذوا من الشعب ملاذا آمنا، واعتصموا به ركنا حصينا فأبوا الفرار ورفضوا النزوح.
لا يكمن تمرد الشاعر فقط في تناص المغايرة مع النص القرآني، وطرح رؤية موازية متعارضة في نصه، تبدو في ظاهرها كأنها مجرد عملية توظيف فنية بحتة بل فيما تأسس عليه هذا التناص في مرحلة سابقة، حين أعاد الشاعر تفسير النص المقدس تفسيرا مختلفا عما هو متداول ومستقر في أذهان الناس، ويرتكز تفسير الشاعر الجديد للنص المقدس على النفي والاستبدال، نفي دلالات المواقف على الخيرية والشرية، أو الإيمان والكفر، ثم استبدال القيم الدنيوية بالقيم الدينية، أو بمعنى أكثر صراحة استبدال القيم الإنسانية بالقيم الإلهية، مما يشي بتلفح تفسير الشاعر بمسحة نيتشوية، تستبدل الإنسان بالله وإن لم ينف أمل (الله) في تفسيره الجديد للنص القرآني كما فعل منظر القوة أو فيلسوف السوبرمان – كما يلقبه بعضهم – حين صرح بموته، ونعود للتذكير بأن تمرد أمل الميتافيزيقي تمرد موقف وليس تمرد تساؤل دائم يسلكه في قائمة اللا أدريين، ولا تمرد رفض شامل يخرجه من دائرة الإيمان.
على أن ما يلفت الانتباه في تمرد أمل الميتافيزيقي بشكل عام، رومانسيته المشوبة بروح عدمية، وهي تتجلى أشد ما تتجلى في رهافة حسه، وميله إلى الحزن والتشاؤم بسبب تأكده شبه اليقيني من المصير المأساوي لكل المتمردين، ونقول شبه اليقيني؛ لأن أمل يتنازعه في شعره بشكل عام عاملان متناقضان هما: الرغبة في التمسك بالمواقف مهما كان الثمن، والشعور في نفس الوقت بعدم الجدوى، وأن مصير كل المتمردين مثله إما اللعنة والطرد من الفردوس كما في حالة إبليس، أو الإخفاق ثم الموت كما في حالة سبارتكوس وابن نوح.
ويختتم أمل نصه برضاه عن موقفه الرافض للنجاة، عندما تكون في شكل هروب من الوطن؛ والتمسك بالبقاء على أرضه، حتى وإن استحال قلبه إلى وردة من عطن، واستحال وطنه الذي اجتاحه الطوفان إلى بقايا وطن:
كان قلبي الذي نسجته الجروح
كان قلبي الذي لعنته الشروح
يرقد الآن فوق بقايا المدينة
وردة من عطن
بعد أن قال “لا” للسفينة
وأحب الوطن