الأخطبوط

الأخطبوط

رضا يونس

اللوحة: الفنان المصري حسين بيكار

حُمِل حملًا على كرسىٍّ متحرك.. كانت آخر مرة استنشق فيها هواء الشارع منذ أربع سنوات.. اليوم أخرجوه مع من خرج غصبًا ليصوِّت لمنصور بك. 

الذي يجلس على كرسي مجلس النوّاب الوثير منذ عشرين عاما، مع أول انتخابات خاضها كانت أرانبه وفقط تسعة وثلاثين أرنبًا، مسكين، فتلك الأرانب النحيفة، لم تكن لتكفي أحلامه الغضّة، لكنه ألقى حينها مليونا واحدًا، اشترى به كل الأحبال الصوتية ومعها الذمم.. فاز باكتساح.. مع توالي الدورات الانتخابية ازداد خبرة وتوحش.. تحول من طبقة مربي الأرانب إلى مسمنِّ للحيتان. يغيب سنوات حيث هناك رفاهية العاصمة، وشركاته التي ابتلعت حبال الأرانب الشبيهة، لم يبق أرنبا إلا واستولى عليه، ومن ثمّ يعود مع قرار دعوة الناخبين لممارسة حقوقهم، إلى تلك الدائرة الانتخابية المستكينة والخاضعة تماما لحفنة من الجنيهات، وربما توزيع أحذية يرتديها هؤلاء، فتحجب عنهم ثرى الصيف الساخن وطين الشتاء الموحل، اللذين غطوا فيهما إلى أذقانهم.. اليوم يقوم مستخدميه بتوزيع حقيبة تشتمل على كيسين من السكر الخام، ومثلهما من المعكرونة، وكيس منظف إيريال، وكيلوجرام من اللحم الأحمر، وصورة عملاقة للرجل وشاربه الملتوي، وإقرار يوقع عليه المستلم لضمان عدم فرار حبله الصوتي..

يدخل العجوز الهرم اللجنة الانتخابية فاقدًا وعيه، فيقوم أحد بنيه برش وجهه بقطرات من الماء البارد.. يفيق العجوز.. يتساءل: أين أنا؟

فيخبره مستشار اللجنة: أنت في اللجنة الانتخابية رقم ١٣ يا عم الحج، عايز تنتخب مين؟

العجوز: والله يا ابني ما اعرف حد.  علِّملي أنت على أي حد كلهم خير وبركة..

المستشار: لا يا عم الحاج احنا ف بلد ديمقراطي خد البطاقة دي فيها ١٢ اسم اختار منهم اللي انت عايزة..

من خارج اللجنة الانتخابية يصدر أحد أبنائه صفيرًا، فيلتفت العجوز ناحيته، ليشير له صاحب الصفير المرتشي بإشارة خماسية.. والرجل لا يعيها جيدا..

يستوضح العجوز: أدي مين يا عبده..

يبتسم مستشار اللجنة الذي بشّر الرجل منذ قليل بالعرس الديمقراطي.. ثم يمط شفتيه.. يهز كتفيه، ربما عجبا من الديمقراطية العرجاء..

يستمر ابنه مُصدِرًا ضجيجًا، فقد حصل منذ قليل من المقر الانتخابي لمنصور بك على نصف ورقة فئة المائتي جنيه، وسيحرم من شطرها الآخر إن لم يؤشر والده على صورة (الأخطبوط) رمز العضو الدائم مطّاط الذّمة..

لم يجد عبده بُدًّا من أن يلفظ: رقم خمسه يا اااابا، الاخطبووط  ياااابا..

ينظر العجوز للمستشار، متوسلًا له أن يساعده للتأشير على الأخطبوط، لاصطياد نصف الورقة الآخر..

يبتسم المستشار الذي يطبق بسخرية القانون الأعرج فيمسك يد العجوز؛ ليضع علامة على الأخطبوط..

ينتهي الرجل من مهمة اصطياد النصف مائتين..

ويظل واقفا لا يحرك ساكنا..

فيسأله أمين اللجنة الانتخابية: مستني إيه يا حج؟

فيقول: والنبي يا ابني شوف اسم مراتي كده انتخبت وللا لسه؟

أمين اللجنة: يفتش عن اسم زوجته، ويبعث له بإشارة إعجاب تشبه لايك الفيسبوك: أيوة يا حج انتخبت وروّحت..

يبدو على العجوز علامات الأسى..

يتساءل أمين اللجنة: مالك يا حج أنتو زعلانين من بعض وللا إيه؟

العجوز: لا والله يا ابني مراتي ماتت من ٢٠ سنة، وكل ٤ سنين بتيجي تنتخب منصور بيه وترَّوح وما بلحقش أشوفها..

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.