الكاتبة الأميركية أناييس نن
ترجمة محمود منقذ الهاشمي
اللوحة: الفنان السوري اسماعيل ابو ترابة
كانت المدينة نائمة عل جانبها الأيمن، تهزها الكوابيس العنيفة. ومن المداخن تتصاعد أنفاس طويلة. وكان أسفلها بارزا، لأن السحب لم تشملها كلها، فكانت فيها ثغرة تجعل للريش الأبيض حدودا. وقد فكت المدينة كل الجسور كما تُفك الأزرار طلبا للراحة. وأنى وجدت ضوء مصباح تمددت عليه حتى يزول.
واستلقت الأشجار، والمنازل، وأعمدة التلغراف عل جانبها. وكان
جامع النفايات يسير بين الجذور، والمنحدرات، والبواليع المتنفّسة، والفوهةُ المفتوحة، منهمكة تبحث عن الفضلات، عن البقايا، الخرق، والزجاج المكسور، والورق، والعلب، والخبز القديم.
كان جامع النفايات يسير في جيوب المدينة النائمة وخارجها، يلتقط النفايات. وفي الجيوب وخارجها، وفوق سلسلة الساعة على بطنها، وداخل أكمامها وخارجها، وحول «ياقتها» المعفرة بالغبار، وعبر القطع الخشبية في شعرها، يلتقط الأوتار المقطوعة.
الأوتار المقطوعة لإصلاح المندولين. هُدّاب الكم، وكِسَر الخبز، ووجه الساعة المهشم، وحبوب التبغ، وتذكرة القطار الكهربائي، والخيط، والطابع.
كان جامع النفايات يعمل في صمت بين البقع والروائح.
وانتفخ كيسه.
واستدارت المدينة ببطء إلى جانبها الأيسر، إلا أن عيون المنازل ظلت مغمضة، والجسور مفكوكة. وكان جامع النفايات يعمل في صمت، ولا ينظر إلى أي شيء كامل. فماذا بوسع المرء ان يفعل بالشيء الكامل؟ يضعه في متحف. لا يلمسه. ولكن ورقة ممزقة، أو رباط حذاء لا زوج له، أو فنجانا غير ذي صحن، فذلك ما يثيره. فهذه أشياء يمكن تحويلها، وصياغتها شيئا آخر. قطعة مستديرة من غليون. مدهشة هذه السلة دون مقبض. مدهشة هذه الزجاجة دون سدادة. مدهش هذا الصندوق دون مفتاح. مدهش
هذا الثوب الجزئي، وشريط القبعة، والمروحة ذات الريش المفقود. مدهشة قاعدة الكاميرا دون كاميرا، وعجلة الدراجة الوحيدة، ونصف أسطوانة الحاكي. شظايا، عوالم ناقصة، نفايات، حطام، نهاية أشياء، وبداية تحولات.
هز جامع النفايات رأسه سرورا. فقد عثر على شيء لا اسم له. إنه يلمع، وهو مستدير، لا يمكن تفسيره. شعر جامع النفايات بالسعادة، وود الكف عن البحث، فالمدينة ستصحو عل رائحة الخبز. وكان كيسه مملوءاً، فيه حتى البراغيث الراقصة، وذيل هرة ميتة يجلب الحظ.
وسار الظل خلفه، مائلا، أطول منه مرتين. وكان الكيس في الظل
سنام جمل، واللحية خُطْمَ الجمل. والجمل يسير في الكثبان الرملية صعودا ونزولا. الجمل يسير صعودا ونزولا، وأنا جلست عل سنام الجمل.
أخذي إلى أقصى المدينة. لا أشجار. لا جسر. لا رصيف. أرض. أرض مبسطة قاحلة. اكواخٌ خشبها المبقع من الأبنية المنهارة. وبين الأكواخ عربات الغجر. وبين الأكواخ والعربات معر ضيق يلزم المرء أن يسير في رتل أحادي. وحول الأكواخ أسيجة خشبية. وداخل الكوخ نفايات. بقايا أسرة. بقايا مقاعد. بقايا موائد. وعلى النفايات رجال، ونساء، وأطفال. وداخل النساء المزيد من الأطفال. براغيث. مرافق تستريح عل حذاء عتيق. رأس يستريح على أيّل محنط، عُلّقت عيناه عل خيط. وجامع النفايات يعطي المرأة
الشيء الذي لا اسم له. والمرأة تلتقطه وتنظر إلى الأسطوانة المجوفة، ثم إلى ما وراء الأسطوانة. فتسمع «تك، تك، تك، تك..» فتقول إنها ساعة.
ويقربها جامع النفايات إلى أذنه، ويقر من تكتكاها أنها ساعة، ولكن ما دام وجهها أجوف فلن يعرفوا الوقت. «تك، نك، تك..»، ضربة الزمن ولا تبين الساعة.
ورأس الكوخ محدد كالخيمة العربية. والنوافذ مائلة كالعيون الشرقية.
وعلى العبة باقة زهر. أزهار مصنوعة من الخرز والسيقان الحديدية، سقطت عند أحد القبور. والمرأة ترشها بالماء، فتصدأ السيقان.
والأطفال الجالسون في الوحل يحاولون أن يجعلوا حذاء قديماً يطوف كالزورق. والمرأة تقص خيطها بنصف مقص. وجامع النفايات يقرأ الصحيفة بنظارتين مكسورتين. والأولاد يذهبون إلى الينبوع بدلاء راشحة. حتى إذا عادوا فر غت الدلاء. وجامعو النفايات ينحنون عل محتوى أكياسهم. مسامير مقلوعة. آجرة سقف. سدّة ضاعت حروفها.
ويخرج من عربة الغجر خلفهم جذع إنسان. جذع إنسان على رجلين خشبيتين، ورأسه منحرف إلى أحد الجوانب. ماذا فعل بساقيه وذراعيه؟ أهي تحت كومة النفايات؟ هل رُميَ هو من النافذة؟ فعُثِرَ عل بقية إنسان عند الفجر.
وبين شقوق الأكواخ كانت مداعبة المندولين ذي الوتر الواحد.
جامع النفايات ينظر إليّ بعينه الوحيدة الراشحة. فألتقط سلة لا قاع لها. وإطار قبعة. وبطانة معطف. وألمس نفسي. أأنا كاملة؟ ألي ذراعان؟ ساقان؟ عينان؟ أين أخص قدمي؟ أنزع حذائي لأرى، لأحس. أضحك. أخمص قدمي مغرى بنفاية زرقاء، نفاية ولكنها زرقاء كرماد الكوبالت.
المطر ينهمر. أرفع هيكل مظلة. أجلس على تلة من الفلين لها رائحة الخمر. يمر جامع نفايات، ومقبض سكين في يده. وبها يشير إلى درب المحار الميت. في نهاية الدرب ثوبي الأزرق. بكيت على موته. لقد رقصت وأنا أرتديه حين كنت في السابعة عشرة من عمري، رقصت حتى تقطع.
حاولت أن ألبسه واخرج إلى الجانب الآخر. لا أستطع أن أمكث فيه. هنا أنا، وهنالك الثوب، وأنا إلى الأبد خارج الثوب الذي أحببته، أرقص رقصا سليما في الهواء، وأقع عل الأرض لأن كعب حذائي قد اقتلع، كعب الحذاء الذي أضعته في ليلة عطرة، وأن أعتلي إحدى الهضاب أقبل محبوبي بلهفة.
أقول: أين كل الأشياء الأخرى، أين كل الأشياء التي ظننتها ميتة؟
أعطاني جامع النفايات «ضرس العقل»، وشعري الطويل الذي قصصته. ثم غاص في كومة النفايات، حتى إذا حاولت أن أرفعه وجدت في يدي فزاعة عصافير ذات ردنين مليئين بالقش، وقبعة مرتفعة القمة ثقبتها رصاصة.
وجامعو النفايات جالسون حول النار الموقدة من مصاريع الأبواب،
وإطارات النوافذ، واللحى الاصطناعية، والكستناء، وذيول الخيل،
وأوراق نخيل نهاية العام. والأعرج بجلس عل بقية ما قُطع من جذعه، ورجلاه الخشبيتان إلى جداره. وخارج الأكواخ وعربات الغجر، كانت الناس وكان الأطفال.
سألت: ألا يستطع المرء أن يرمي أي شيء إلى الأبد؟
جامع النفايات يضحك من زاوية فمه، نصف ضحكة، شظية ضحكة، وبدؤوا جميعاً يغنون.
في البداية، جاءت أنفاس الثوم الذي علقوه في أكواخهم كالمشكاة
الصينية الحمراء، وتبعت أنفاس الثوم أغنية أفعوانية:
لا شيء يضيع بل يتبدل
في الوتر الجديد وتر عتيق
في الوعاء الجديد «تنكة» عتيقة
في الحذاء الجديد جلد عتيق
في الحرير الجديد شَعر عتيق
في القبعة الجديدة قش عتيق
في الرجل الجديد طفل
والجديد ليس جديدا
الجديد ليس جديدا
الجديد ليس جديدا
وظل جامع النفايات يغني طوال الليل: «الجديد ليس جديدا، الجديد
ليس جديدا…»، حتى استلمت للنوم فالتقطوني ووضعون في كيس.