ماذا قلت يا أبي

ماذا قلت يا أبي

إبراهيم صموئيل

اللوحة: الفنان السوري جمال حتمل

ارتميت منكبّاً عل صدره، وقربت أذني من فمه لأفهم ما يقول.. غير أن صوته غار ثانية في التأوهات، تحت وطء الغيبوبة وجس أيدي الطيبين وتدافعها العجول المنظم فوق جسده الممدد على السرير المعدني داخل غرفة الاسعافات في بداية رواق المستشفى. 

– قل يا أبي… ماذا تريد؟.. قل.. 

ندهتُ.. فربتت الممرضة عل كتفي لأبتعد عن جسده: 

– لا تهم.. هذا أنين المرض. 

وراحت تجفف زيداً رغا على شفتيه، تراجعتُ غير مصدق ما قالته. فمنذ يومين، وكنت قرب فراشه في البيت، ناداني بأصابعه الواهنة وقال لي بصوت منهك: «ابق إلى جانبي.. لي حديث معك.. إذا مد الله في عمري» يومها رجوته: «قله الآن يا أبي.. ها أنا أسمعك؟ غالب تعبه بابتسامة كابية عارفة: «لا تخف.. مرضت كثيرا.. ورأيت كثرا.. لكني لم أمت.. عمر الشقي بقي وحينها جفلت. قبلته، ودعوت له بطول العمر.. ثم صرت ظله الواجس. 

وقبل قليل، في سيارة الاسعاف، همهم شيئا، كأنه قال، لكن لهوجتي وضجيج المحرك والزمور المتقطع.. بددت كلماته! 

أومأ لي طبيب، وانتحى بي جانبا: 

– هل كان أبوك يشرب كثرا؟

– بلى كأن يشرب. 

همس الطبيب الذي سألني في أذن طبيب لم يسأل. همست لنفسي: وأحلى شارب في الدنيا. عل أطراف البركة، في حوش الدار، أول المساء، كان يوزع صحون البطاطا المقلية والبزر والجين والمخلل والزيتون.. فأتدافع واخوتي، متسابقين، إلى ساقيه، يفوز من يحتل ركبتيه، فيحرد من يحرد ويشمت من يشمت… لكن ذراعيه المشرعتين على الرحب كانتا تجمعنا وتنسينا خلافاتنا، فيقهقه وهو يقول لأمي: «لك يا مرا.. الدنيا بلا شراب خراب» ونسبق أمي إلى جوابها المعتاد الذي حفظناه: 

«هي خربانة خربانة بشراب وبلا شراب” وتغمر الدار، والدنيا، ضحكات رقراقة مجلجلة.. 

نقر الطبيب عل كتفي لأمسك يد أبي. رفعتها، فأحسست بثقلها الغريب. راح يلف حول زنده قطعة لقياس الضغط، فيما يتابع الطبيب الآخر الاصغاء لنبضات قلبه، وترج الممرضة زجاجات صغيرة ملونة. مسحت ظاهر كفه، فانسبلت الشعيرات السوداء الكثيفة حول أصابعه. قبلتها، وأدرت الكف الضخمة وغمرت بها وجهي، فأحسست بأصابعه كأنها تتحرك. غرت بين الأصابع أكثر. الأصابع التي كان يمسح بها دموعي أو يشدني إلى صدره.. يحيط بها رأسي، حين أسير قربه، فأشعر كأن الله مد يده ليخصني بها دون غيري.. أو كان، وقت ألجُّ عليه: يكاسرني بها، فأكسره، بعد جهد وطول عناء، وأطير فرحا نشوان إل أمي أخبرها بانتصاري على أقوى بطل في العالم.. أزاحني الطبيب مضطربا، مم امتص بالحقنة قليلا من الدم. 

– مصاب بالسكري؟ 

– لا!

– فقر الدم؟ 

– لا 

ضغط بأصبعيه عل خديه، ففغر فمه. دلق سائلين أبيض وأحمر، والتفت إلى الممرضة التي كانت تلطم على باطن ساعد أبي بحثا عن وريد، وسألها بعينيه.. فأومأتْ أن لا فائدة. أخذ منها ابرة السيروم وراح يلطم، بتسارع، عل عنقه محاولا إيلاج الإبرة.. دون جدوى. 

ترك العنق واقترب من الطبيب الآخر. 

دنوت من أبي، ولوحت بكفي أمام عينيه.. فتغيرت تعبيرات وجهه. التصقت بصدره، فهمهم.. ثم راح يومأمئ ويفأفئ.. يخطف شهيقا ثم ينبر بأحرف متقطعة تعلو وتغور ثم تختفي. صحت: 

– أبي.. ماذا تريد؟ أخبرني؟ أنا هنا.. أبي.. 

غير أن السكنية عاودت عينيه المفتوحتين على فراغ، وتراخى وجهه. وجهه الذي كان يبش، كل ليلة، قبل أن أغفو مع إخوتي. 

غابت لألآت ملامحه التي كانت تطالعنا صباح كل عطلة حين يوقظنا متلهفا، ونتوارى تحت الأغطية غاضبين، فيصر، رغم احتجاجات أمي، إلى أن نتحلق حول أطباق الفول والحمص والنعناع والبصل اليابس والمخلل… فنأكل بنهم، مقلدين شهيته، ثم «نشرق» الشاي الساخن ونحن موزعين عل جسمه، نصغي لحكاياته التي لا تنتهي، ولا نملها، عن الحرب التي أخذت بنصره والهجرات والطيور الغريبة وأيام الجوع والخوف وليالي التشرد وعن الأمراض التي كادت تسرقه منا وعن الـ…. 

نبهت الممرضة الطبيب إلى أن الضغط بدأ ينخفض، فسارع الطبيب إلى الحقنة، شدّني: «أمله إلى جنبه” سحب منامته، غرز حقنة في اليته، ثم أولج ميزان الحرارة: «خل يدك هكذا» واستدار. الية أبي!! 

كأن جبلا شاهقا مهيبا راح يتقوض فيَّ ويتضعضع! أمام عيني هتك الطبيب بومضة سر الأسرار، فانكشف لي المخيف عن رعب راعب! خمنت أن أبي سيستدير لينهرني أو يقفل حاجبيه ويعض عل شفته زاجرا.. لكنه ما فعل! سحب الطبيب الميزان: «أعده». وسأل زميله عن نبضات القلب، فرفع حاجيه وهز رأسه. عاين ابرة السيروم فوجدها منزلقة خارج الجلد. دنا من الممرضة وهمس، فخرجت مسرعة، فيما راح يحاول غرز الابرة في العضد ثم العنق ثم العضد الآخر. 

طلب مني أن أرفع كتفيه، فأحطتهما ورفعت. كانا ثقيلين… لكنهما عريضان وحنونان كما في تلك الأيام.. حين أطللت عل الدنيا من فوقهما ورأت المعالم لأول مرة.. حين كان يخطفني اليهما فأصرخ، لبرهة، فزعا مذعورا، ثم انفلت بالضحك والنطنطة فيما ساقاي المسدلتان تطوحان على صدره حينا وتثبتان داخل كفيه الضخمتين الممتلئتين حينا آخر، فأتمايل وأتطوح دون أن أخشى انزلاقا.. أنطنط من دهشتي كيف كبرت، فجأة، حتى صرت أطول من الناس جميعا، فأصفق وأغني ثم أغمر في لحظة نشوة وجه أبي حتى أحجب عينيه، فيضحك ضحكته المجلجلة إياها وهو يقول: «طيب… دلني عل الطريق الآن إذن يا باشا!!”

مثل هبة ريع مباغتة، دخلت الممرضة وناولت الطبيب مشرطا. 

نبر بحزم من تراءى له الموت: 

أمسكي كتفيه.. وأنت ساعدها. 

والتفت إلى الطبب الآخر. 

– ناولني السيروم، وألحظ لي نبضات قلبه. 

وبلمحة شق بالمشرط أسفل ساقه، فانفلق اللحم وانفلق قلبى. 

التفت إلى وجه أبي، كان خاليا من أي ألم، ممسوحا بكآبة غريبة، ساكنا وسط عينين فاغرتين لا ترفان ولا تتحركان، تراجع معظم سوادها للخلف، فيما احتل البياض المصفرّ الفتحتين الكابيتين.

فجأة، لحظة حرر الطبيب وريدا وغزز فيه ابرة السيروم، اختلج جسد أي كله، وراح يرفع يده بتثاقل وشدّه وكأنه يدفع الكون عن صدره، ثم تحركت حدقتاه كأنه يبحث عني. انبطحت عل صدره:

  • أبي؟! 

تلعم بصوت بطيء، زاحف، ممطوط: 

  • نو… ما.. مم.. عوو.. قا اا….

ثم هوت بعدها يده وتطوحت، فيما امتلأت أذني بزبد فمه، ممزوجا بأصوات مبهمة وحشرجات تتدافع عبر زفير قصير مقذوف وشهيق طويل يتقطع ويغيب. 

صحت من رعب ولهفة: 

أبي… ماذا قلت..؟ ماذا تريد..؟ أشر لي.. أنا هنا. 

لكزني الطبيب: 

– اتركه الآن.. ابتعد.. حين يشفى تسأله. 

دفعته دون وعي، وقد ملأني فزع من إضاعة فرصة لن تعود: 

– اتركني أنت يا رجل.. أريد أن أفهم ماذا قال.. 

وحاولت إحاطة وجه أبي.. غير أن الطبيب شدي بقوة، ورفعه من كتفيه، فيما كان الطبيب الآخر يحمله من ساقيه، والممرضة ترفع كيس السيروم عاليا، مُدد على العرية المتحركة، وانطلقوا به نحو المصعد. 

ركضت خلفهم أقاتل شبحا أحسست أنه غدر أبي هذه المرة. 

ركضت، خائفا، كما في طفولتي حين كان يسهو عني في الطريق، وأزعق فيستدير، مدهوشا، ثم يغمرني وهو يطبطب عل ظهري ويتابع خطوه السريع. زعقت.. فما استدار، ولا تلفت، ولا طبطب عل ظهري الذي انهد وانكسر! في الطابق الثالث أدخلوه إلى غرفة مليئة بالمرضى. وضع الطبيب جهاز مراقبة نبضات القلب عل صدره، ثم راح يضغط، بكفيه. التفت إليّ لاهثا:

– انزل مثل البرق واجلب من المستودع اسطوانة أوكسجين. 

استدرت، مم توقفت: 

– ولكن أرجوك.. انتبه إلى ما يقوله.. 

وطرت من جنوني. لأول مرة أحس أن حياة أبي بين يدي. 

طرت أهبط درجااات ودرجاااات.. أهبط وأنزلق وأتعثر وأرتطم وألوب. 

رجوت أمين المستودع، فدفع الاسطوانة الطويلة أمامه نحو المصعد. 

انطلقت أصعد الدرجات كما هبطت. انعطفت إلى الممر الأخير، وكدت أواصل اندفاعي حين أمسكت يد الطبيب يدي، وأحاطت ذراعه كتفي:

  • العمر لك. 

طفحت كل أيام طفولتي من فمي. 

أي عمر!! ماذا تقول؟ 

وسرقت يدي وكتفي وفزعت إلى الغرفة.. مسجى، مجللا بالبياض، كانوا يرفعونه إلى العربة. صرخت: 

ماذا قال؟! نزعت الشرشف ونترت عصبة تحيط رأسه وذقته: 

ستخنقوه! غمرت وجهه: أي.. قل لي.. هذه المرة سأسمعك… 

بكل ساعات انتظاري واحتراق شوق.. غمرته. غمرته كنت أفعل دوما عند أوبته وأنا صغير، ورحت أصرخ في أذنيه: 

  • أبي.. أنا قربك فقل.. أسمعك.. ماذا تريد..؟ 

دفعوا العربة، فتدحرجت خلفها وقد شج صمته الأبدي عمري. 

بعقت من قهر: 

– أبي.. ماذا قلت يا أبي ؟ أبي ي ي ي ٠…. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.