اللوحة: الفنان الإيطالي ماريو سيروني
لا تحقق التكنولوجيا أهدافها إلا إذا أقبل عليها الناس، واندمجوا في مجالاتها، وامتزجت هي بنسيجهم الاجتماعي، وصارت قريبة منهم لا تفرق بين صغير وكبير أو بين واجد وفاقد، ولا يكون ذلك إلا إذا فتحت هذه التكنولوجيا أبوابها للناس على اختلاف قدراتهم وأقدارهم، فوجدوا أنفسهم فيها، ووجدت هي نفسها فيهم.
ذلك – عزيزي القارئ – هو بالضبط، ما يحدث لشبكة “الإنترنت” العالمية الآن، وسوف يتصاعد في المستقبل، فالخبراء يؤكدون أننا لن نلبث أن نرى العلاقة الحميمة بين الناس وشبكة الإنترنت، وقد تحقق فيها قول “بشارة الخوري”:
لو مر سيف بيننا لم نكن نعلم هل أجرى دمي، أم دمك
فالشبكة، ولما يمض عليها غير برهة من زمن يسير، صارت نافذة الإنسان إلى عالمه المتسارع، وصارت وكيله عن بعد، يبيع بها ويشتري، ويعقد الصفقات والصداقات والمؤتمرات والمؤامرات، ويجري بها المفاوضات والاستفتاءات، ويجمع بها المعلومات ويفض بها المنازعات، وهي رياضته الذهنية والبدنية وهي سياحاته حول العالم، تحت بحاره وفوق جباله وبين أقماره، وهو في جميع ذلك يتنقل دون ترحال، ويثري نفسه وثقافته دون نفقة تذكر.
المدهش في أمر هذه الشبكة العنكبوتية، هو بعدها “المتطفل” فقد حققت ذاتها وشهرتها بواسطة الفضول والتطفل على الآخرين، إذ قامت بوظيفة “همزة الوصل” فقط، بين أشياء كانت موجودة لكن بلا ارتباط بينها، فالإنترنت كفلت عملية الوصل بين شبكات معلوماتية لا تملكها هي، فكانت الوسيط الذي تطفل فأدى خدمة الربط بين المتناثر، فأصبح طرفاً مهماً يسد النقص ويحدث التكامل ويربط العالم من حدود الماء إلى حدود الفضاء.
ليس ذلك –عزيزي القارئ- فحسب، فالتكنولوجيا المعلوماتية في “الإنترنت” لا تقتصر على تكنولوجيا الواقع الذي رأينا طرفاً منه هنا، بل هي تجعل “للخيال” تكنولوجيا، يجري توليدها بين الأرقام والرموز، وهو ما يعرف “بالحقيقة الوهمية” أو الحقيقة الخيالية “Virtual Reality“، وبهذه التكنولوجيا المدهشة، يجري تحويل الخيال إلى واقع ملموس يتحرك المستخدم خلاله كما يتحرك في حياته المعتادة، وذلك بواسطة “خداع البصر” أو “خداع الحواس” بعبارة أدق، وبهذا يستطيع أن يمارس أشياء يستحيل ممارستها في واقعه المعتاد، فالإنسان يستطيع بالحقيقة الوهمية، أن يجوب الفضاء، أو يسافر عبر الزمن ويستحضر العصور السحيقة ويعيد بعث الحياة فيها، كما يستطيع أن يتعلم في أمان كيف يقود الطائرة، ويفعل في “غرفة” جميع ما يفعله الطيار في الفضاء الطبيعي دون خوف أو قيد أو خطر، كما يقدر الإنسان أن يقوم برحلة علمية غنية بالمعرفة داخل قلب إنسانى أو شريانٍ بشرى أو غير بشرى.
والآن.. ماذا يعني هذا التطور –عزيزي القارئ- بالنسبة لنا؟
من الأفضل لنا كي نجيب- أن نأخذ باقتراح الدكتور “نبيل علي” في كتابه الجميل “الثقافة العربية وعصر المعلومات” فلا نتحدث عن الولايات المتحدة أو اليابان أو فرنسا إلخ، فإن اللعب مع الكبار بالنسبة إلينا خطر قد يقود إلى اليأس، لبعد الشقة بين واقعين على طرفي التناقض التكنولوجي والمعلوماتي. ولننظر كيف يلعب الصغار بذكاء في ساحة الكبار، وكيف تحقق لشعب “سنغافورة” أو لليهود في أرضنا المغتصبة مثلاً ما تحقق، وطارت به الأخبار، وكيف استطاعت “الهند” في سنوات عشر أن تصبح في صدارة صناعة “البرمجيات”؟
إن تأمل هذه التجارب ليؤكد أن في استطاعة الصغير الواثق السريع أن يسبق الكبير البطيء الذي تعوزه الثورة والرغبة في التجربة، على أن نفهم معنى “الصغير” هنا في إطار أوسع من صغر التنظيم أو الاستثمار، بل يشمل على نحو أساسي، “صغر السن” أيضاً، فإن تكنولوجيا المعلومات على نحو أخص، مدينة للشباب بتطورها وإبداعها، فاختراع الدوائر المتكاملة، وأساليب البرمجة الجدولية، و”السوبر كمبيوتر” وغيرها وغيرها هي من إنجازات الشباب، ولا يمكن أن ينسى الناس “بيل جيتس” الذي شرع في تأسيس شركته عندما كان في سن الرابعة عشر من عمره!
فإذا تذكرنا أن وطننا العربي مثلاً، يصنف مع “الدول الرضيعة” من حيث التركيبة الديموغرافية، لأن نحو خمسة وأربعين في المائة من سكانه دون الرابعة عشر من عمرهم- إذا تذكرنا ذلك وعرفنا هذا العدد الهائل من الشباب، فهل يمكن أن نحلم بيوم يوسع فيه شيوخنا المحترمون الطريق أمام الشباب المتطلع، لعلها تكون الفرصة السانحة ليأخذوا زمام المبادرة ولتتكون عندنا قيادات شابة وتنظيمات شابة، لها قدرة على التغيير؟ تكنولوجيا المعرفة أصبحت تهب كل لحظة، لا كل ساعة ولا كل يوم، إنها قوية كالريح، كثيفة كالليل، فهل نثق في شبابنا ونساعدهم، أم نبقى في انتظار ريح تكون مثلنا، طبْعها الانتظار؟
أيها العرب.. أيها المسلمون، خذوا ما آتاكمُ الله بقوة، خذوا مناهج التعليم بأيديكم، ومنجز العالم المتقدم عامر بما يفيد.. إن قطار المعرفة السريع، سيدهس الكسالى، فلا يلتفت إلى مأساتهم أحد.
صدقتم معالي الدكتور ، ولكن لقد أسمعت لو ناديت حيًا ..
وهل المسؤولون في بلادنا أحياء ؟!
إعجابإعجاب