أمل بشير
اللوحة: الفنان الأكراني إيفان إيفازوفسكي
عندما تغيب أصوات البشر، أعود لكهفي، أعود لوحدتي، أعود لسجني الانفرادي، عندها يصبح فراشي الممهد هو أكبر همي، وغرفتي الباردة هي أقوى مخاوفي.
حين تغادر الشمس، ويرحل معها أي معنى للحياة، يبدأ عقلي بالغليان، ينهمر سيل التساؤلات، وتبدأ الذكريات بفرض حصارها على حاضري البائس.
وبينما الليل سَكَن وحِضْن يحتضن البشر بسكونه؛ ليمتص كل التعب والإجهاد؛
يطبق ليلي على أضلعي فيهشم قلبي، ويقتل روحي فتنزف دموعي لتحكي قصتي الحزينة لوسادة هي أقرب رفيق.
لطالما كانت المودة هي التي يشرب الزواج من وردها، فترق بها أقسى القلوب وتشف وترتقي، وتخضع في حضرتها الجباه، فتحن للسكن الذي لا نشعر بالأمان إلا بين أحضانه.
لقد بات لي الآن بركان كره يزداد أواره كل يوم، يوشك أن ينفجر فيبددني ويحرمني الأمان.
وحيدة طريدة أقبع في زاوية مظلمة من الحياة، مهجورة مركونة كمجذوم يُخشى منه، أتقلب على فراش من جمر يحرقني، فلا هو قاتلي، ولا أمل أن تخبو ناره.
خائفة هاربة أبحث فقط عن شيء من الحب، أبحث عن فتاته على موائد الآخرين،
لعله يحيي موات الروح ويعيد بريق الحياة.
في كل مرة تغادر، أرفع يدي ألوح لك من بعيد، وأمسح دمعة تكاد تفر من عيني، أمنعها خشية أن يراها أحد، وأبتسم ابتسامة تعتصر وجداني، تتقلص تلك العضلات حول شفتي لترسمها، أتشاغل بالحديث مع من يكون، حديث لا أفقه ما هو، أودعك دون أن يشعروا بي، أنظر إليك من بعيد، فتتعانق النظرات، وتتقافز دقات القلوب، وتتغير معالم الوجوه، ويتوقف الزمن ليترك لنا تلك البرهة المسروقة، فلا نوفر فيها خيالا إلا سخرناه ليحكي ما تمنيناه، فأكون بين أحضانك، تقبلني، تضمني، وتحرك كل ذرات جسدي فتقف كل شعرة فيه من هيبة حضرتك، كأنها جنود تصطف خلف قائدها.
أشعر بالغثيان.. بالتوهان.. بالخفقان، أنفصل عن عالمي؛ لأعيش معك في عالم الخيال ما لن نعيشه على وجه هذه الأرض، ثم أعود من سفري على صوت يناديني، ويد تهزني، فتنقطع تلك النظرة، وتختفي تلك الصورة، ويخاف ذلك الخيال أن يكون هناك متلصص قد رآه.
لكنني أرى ذلك الوعد بأن أبقى لك وأن تبقى لي، بأن الحلم والمنى والخيال لنا وحدنا، لن تستطيع تلك القيود والتقاليد، ولاهذا الخاتم الذي التف حول عنقي فسلبني الحياة، لن يستطيعوا جميعا حرماننا من حقنا في الخيال والأحلام، ولن يسرقوا منا برهة من الزمن تجمعنا فيها تلك النظرة التي لم تحتج يوما لأي كلام.
أودعه، رغم أنني أحمله ويحملني بين الضلوع، يعينني على الحياة بين قضبان سجن اجتماعي يسمى الزواج، ندخله بلا وعي منا، ونبقى فيه رغم أننا نستعيد الوعي؛ لنعلم اننا اخطأنا الاختيار.
ألوذ بالفرار، ألهث راكضة لأختبئ بين أحرفي علها تدفئني وتخبرني أنني مازلت بخير، ألتقيك فيها، وأودعك في آن، وداعا ليس بوداع، وداعا يشي بلقائنا ثانية حتى لو كان على صفحة تملؤها حروفي.