مصطفى البلكي
اللوحة: الفنانة المغربية شريفة الحيمري
بدتْ زوجتي ضجرة من الأصوات الآتية من بعيد، ومن حالتي الجديدة، ومن الكمامة الموضوعة حول أنفي وفمي، وأنا أغادر البيت تلبية لصوت الجماهير، نظرت إلىّ فلم أعرها أي اهتمام.
حاولتُ مرارًا أن أوضح لها أن ما يحدث مجرد شيء طارئ، سوف يأخذ وقته ثم يمضي، وكأن شيئًا لم يكن، فقط حينما يزول السبب، وزيادة في إدخال روح الاطمئنان إليها، أخبرتها أن علاجي يكمن في الخلاء، ولا شيء سواه.
يوم أن قلتُ لها ذلك، فتشت في ملامحها عن بادرة اقتناع، لم أجد، فخرجت، بدون أن أحدد الوجهة التي يجب عليَّ أن أقصدها، أسلمتُ نفسي لقدميّ، وضعتُ الكمامة علي أنفى ما أن غادرت عتبة البيت.
في البداية، راحت الرائحة تتسرب ببطء إلى أنفي، تركت صالة البيت بعد أن غيروا المحطة التي تبث أمواج البشر المتدفقة في شارع المدينة الأكبر، وفعلت كما تفعل الكلاب المدربة، درت في حجرات البيت، أفتش عن شيء ميت.
غرفة النوم كانت أول الأماكن، شدتني الكرتونة الموجودة خلف بابها، أخرجت ما بها: حفاظات دورة، قطع توبس مستخدمة، مناديل كلينكس ملوثة بإفرازات، مائلة للصفرة، وبعض الملابس الداخلية الممزقة، ومجلات ذات أغلفة صارخة، وبنفس الطريقة فحصت الدولاب المكدسة فيه الهدوم، والسرير لم يسلم من يدي، وفى نهاية الرحلة لم أجد مصدر الرائحة، فخرجت وبحثت في كل الغرف.
لم أجد أي أثر لجيفة ميتة، عدت وألقيت جسدي المجهد على الكنبة، بجوار زوجتي، كانت تجلس لوحدها، وكانت تتابع قناة الأغاني، وهى تقوم بتجهيز صبغة لشعرها، سألتني عن راتب الشهر، فأخبرتها أننا مازلنا في بداية الشهر، وأوصيتها بأن تقتصد، فربما الراتب يتأخر، بسبب إغلاق البنوك، هزت رأسها وطلبت مني مبلغًا إضافيًا حتى تفي بطلبات البيت، ذكرتها بأن كل راتبي تسلمته مني كعادتها كل شهر، وودت أن أخبرها بأن المبلغ يكفي، لولا صوتها الذي ارتفع، وسحب الأولاد من غرفهم، والنعاس يتراقص على وجوههم، وثمة سؤال يتردد على ألسنتهم:
ـ ماذا حدث؟
تكلمت معهم وشرحت الحالة التي أقلقتني، والتي جعلتني أهرب من نوم القيلولة، وقررت إشراكهم معي في البحث عن تلك الرائحة.
أكبر الأبناء، كان أكثرهم ميلاً لمشاركتي البحث عن مصدر الرائحة، وضع السطح نصب عينيه، وهناك وقفت بجواره بين كراكيب كثيرة، لأول مرة اكتشفت كمها الهائل، كميات من علب صفيح صدئة كانت فيما سبق ملأى بالعصائر، واللحوم المحفوظة، والبقوليات المعلبة، والسمنة المهدرجة، العلب كانت متداخلة مع أخرى من الكرتون على سطحها اسم مطعم كبير وشهير، يجاورها كميات من أثاث قديم ملقى على بعضه في كومة هائلة.. اكتمل الاكتشاف بالعثور على كرتونة أتى بها، ثم انحنى ليفتحها، شاهدته بعينيّ وهو يخرج الكتب المختلفة، والجرائد، وكذلك قشر البطيخ الناشف، وعظام الدجاج..
وقفت بلهفة اتابعه والأصوات تأتي واضحة، فإذا ما أنصت جيدًا، خفت الرائحة، وشعرت بأنني أحسن، فلما انتهى، ظهرت على وجهه علامات النصر، ونظر إلىّ نظرة الباحث إلى مساعده حينما يحقق نتائج مذهلة في بحثهما المشترك، وصلتني عدوى الانتصار، ومنيت نفسي بالوصول لمصدر الرائحة، فرحة قُدر لها أن تتلاشى حينما مد يده، وجذب زمارة قديمة من الغاب بروحين، لحظتها داهمتني الرائحة بوطأة أشد، فوضعت يدي حول أنفي، وهرولت نازلاً.
سرت في الشارع، لا يستر جسدي إلا فانلّة ولباس، وشبشب حمام، لم يمض وقت كبير إلا وانتبهت إلى حالتي، وقتها تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني وأنا أقف أمام المقهى الممتلئ برواده من أهل البلدة، بنظرة واحدة إليهم، لم ألحظ أي اهتمام، كأن بيني وبينهم حائط شُيد من الصمت.
اقتربت منهم، كانت المسافة الفاصلة لا تزيد عن متر واحد، لم يقف أي منهم، ولم أحظ بدعوة من أحدهم لأشاركه شرب الشاي، بسرعة وجهت عينيّ إلى نفس وجهتهم، رأيتهم يتابعون جسدًا يتلوى بين يديّ شاب، هنا ارتفعت الرائحة، فخرجت كانت الصيدلية مفتوحة، فمررت من بابها، قابلني صاحبها بالترحاب، وغادر مكان جلوسه، ووقف قبالتي، لا يفصل بيني وبينه إلا فترينة ملأى بأدوات التجميل، صارحته بما أشعر به، فضحك وقال إن الحال من بعضه، وغادرني، ثم جاء وبيده علبة، مد يده وأخرج من بطنها قطعة من القماش، وقال وهو يمدها لي إنها سوف تُبعد الرائحة، علمني كيف أضعها حول أنفي وفمي، شكرته وخرجت، خطوات قليلة ووصل إلى سمعي همسات وتلميحات، فأسرعت الخطى، دخلت البيت، وجدتهم يجلسون وعيونهم شاخصة يتابعون مسلسل نور ومهند، مررت من جوارهم بدون أن يشعروا بي، دخلت غرفتي، فلما هممت بنزع الكمامة، عادت الرائحة، فأبقيتها، ونمت.
الآن أنا أقترب من بداية الميدان، الكمامة ما زالت فوق أنفي، أنزعها، فتتبدد الرائحة، وأدفع نفسي، فتلوح رائحة طيبة، أفتح لها صدري، بينما الكمامة تسقط فتدوسها الأقدام.