تحسين يقين
اللوحة: الفنان الفرنسي هنري ماتيس
ليس على الأرض فقط ما تريدون أن نرى لطول معايشة الكاميرات لشيء واحد فقط، بل هناك أشياء أخرى، فمن يدعي أن غناء الأرض غناء واحد؟
أحمل همي وألجأ إلى الجبال، كلاجئ كلاسيكي نحو الطبيعة لتفعل فعل التطهير، ما أكبر الجبل إنه أكبر من البيت بكثير وأكبر من مبنى الوزارة والفندق الكبير، فكم هو سعيد ساكن الجبال حين يشعر بأن الجبال خلقت له!
رحبة هي الجبال بمداها وسمائها وأفقها وأزهارها وأشجارها، وجميلة هي حين تمر منها صاحبة العيون السود، تلك الغزالة التي تخطو برشاقة وتنظر كيمامة وتفوح عطرا كوردة!
هنا الوطن أجمل، وأنقى، فأحمد الله كثيرا على الأرض، إنها فعلا ملجأ عظيم..
لكن في البال ما يؤرق ويقلق.. ويحاول جهده أن يسرقني من الجبل إلى نزاعات المكاتب والمراتب والمناصب!
ورثنا ورثة سيئة من الغريب الغازي: قسوته، فقسونا على أنفسنا!
ما زال الأمر يؤرقني، وما زلت بين مصدق للخبر ومكذب له؛ إذ كيف أتقبل كإنسان يعيش بصعوبة على أرضه، ويسير في الطرقات الجبلية الوعرة، أن يتطوع هاو أو عاطل عن العمل والشعور بدحرجة كتل الجارة إلى دربي وأنا أصعد حاملا المياه على ظهري من العين إلى البيت هناك بأعلى الجبل ليشرب منه الأطفال؟
لا وقت لدي كي أنتشل حجارة أخي من الطريق، ولا طاقة، فكيف سأواصل الصعود بعد أن أحرقها في تنظيف الطريق؟
لا بأس، سآوي إلى ظل شجرة هناك في عقبة الطريق، عند المقطع الجبلي شديد الانحدار، سأزيل ما تيسر من حجارة لأصعد، أما العطاشى في البيت فسيحتملون زمنا إضافيا وسيقبلون اعتذاري..
لن يصبح الخبر القادم من بلاد البحر إلى بلاد الجبل قديما، بل سيظل على غير عادة الفضائيات الشيطانية خبرا عاجلا ينغص عيشي؛ وإن تابع أناس الأخبار العاجلة الأخرى عن عبثية الرفاهية، عن ارتباط وانفصال المشاهير الذين يبدؤون يومهم حين ينتهي النهار وقسط وافر من الليل؛ فإن الخبر عندي ظل طازجا لم تعد ما بعده من أخبار تغريني للمتابعة.
لا أحتاج برهانا على زعمي أن معدة عقلي لا تستطيع هضم قتال الأخوة الذين يقتلهم في تشف قاتل وجد مبررا ليقول: انظروا إلى قسوتهم ولا تلوموني على قسوتي على الأخوة القساة، أليس خطيئة أن أتركهم يعيشون بقسوتهم قربي!
لا تهضم معدة الإنسان الحجارة والمعادن لأنه ليس هناك أجهزة ومعدات لطحن الصلب لتيسير الامتصاص..فكيف إذن سأسامح أخوتي الذين جعلوني أتوارى عن الأصدقاء لأنني عبثا حاولت البحث عن كلمات؟ وأصعب منها القول أن ما يحصل لا يمثل الناس هناك، ولا يمثلني ولا يمثل كل الذين التقيتهم، فكيف يدعي المقتتلون أنهم يمثلونني؟
يرحل أبناء البحر إلى بلاد الجبل طلبا للحماية، ولربما لو استصدرت تصاريح للأضعف هنا لهرب إلى هناك، تغريبة غريبة من بلاد الجبل إلى بلاد البحر! ذلك أن كل لون يعيش مع لونه، فتصبح هذه القطعة من الوطن لهذه القبيلة وتلك لقبيلة أخرى، إذن لا تلوموا أحدا على الهروب، ولا تخفضوا من رتبة أحد، وليكن كل أفراد اللون الواحد ألوية..لا جنود.. ولا جنود بقوا بعدما بهرهم الانتصار أو فاجأهم.
الأطفال في انتظار الماء.
لينتظروا وقتا آخر حتى أنتهي من رثائي لنفسي..
وأحدق في الصورة التي نعيشها لا التي تلتقط لنا.. دون أن ننفي ما يلتقط لنا أثناء اشتباكنا مع الاحتلال ومع أنفسنا.
صورة الآن تزعجنا، تصيبنا بالخجل والحياء والخوف.
ترى من يبادر إلى تغيير الصورة؟ المصوّر( من يصور) أم الذين يصورون(بفتح الواو)؟
وهل انتهت الحلول؟ وهل وصلنا إلى اللاعودة؟ وهل نفذ منا كل ذكاء وشعور فلم يبق غير أوامر غزة وأوامر الضفة؟
في المكان من حولي، متسع للكثير من الحب والكلام وأمل بحل النزاعات، فلماذا لا يأتي الساسة هنا يتحدثون ويتفاوضون بعيدا عن جدران الغرف المغلقة التي تنسجم مع هذا الانغلاق؟
أحدق في المدى، هذه السماء كم هي واضحة زرقاء، وكم واضحة الجبال والشمس، وكم واضحة نسمات الجبل العليلة الباردة التي تغافل الحرارة فتداعب ملامس الجلد، فترسم خطوطا على خطوط العرق المنحدر على الجسد الحار..
عبثا أحاول النسيان، وعبثا أحاول مسامحة الأخ المزهو بانتصاره المجنون، فلأهرب قليلا من المشهد، حتى لا يظنن الناس أن فلسطين اختزلت فقط في النزاع السياسي.
هاأنذا أرفع ما بقي من حجارة حتى أمرّ..
قد أحزن أو أصاب بيأس، لكن الطبيعة من حولي دوما تمنحني الأمل، تريني كيف أن جبال فلسطين لا تخلو من الزهر حتى في شهور الصيف الجافة..!
وهنا على مرأى العين تتسلل بجمال ألوان الأزهار البرية، هل من رمز هنا؟ وهل خلقت تلك الأزهار من أجلي أنا حتى تعزيني وتدفعني للغناء؟
سأطيل النظر في زهر الحُرفيش الجبلي، ذلك الزهر البري العظيم!
حين كنا صغارا، ونحن على أبواب العطلة الصيفية أو قبل ذلك بقليل، كنا نذهب إلى ما تيسر من كروم، نصعد الجبال ونهبط منها، فإذا جعنا كنا نأكل أوراق وسيقان الكثير من الحشائش والأزهار، وكنا نشرب من العيون والينابيع، وحين نجد “مقرا” كنا نضع فيه سبع حصوات من الحجارة كي “نسبعه” أي نطهره، وبعد ذلك نشرب آمنين، وكنا حين نشبع من النباتات حلوة المذاق نلعب بما تيسر، فكنا إما نقاتل الأزهار البرية الشوكية أو نبات الصبر، عن طريق أدوات نحاكي من خلالها السيوف، وحين ننتهي من حروبنا مع النباتات، كنا نهدأ فنبحث عن أشياء أخرى، فلدى الأطفال طاقة، فماذا يصنعون؟
كانت الطبيعة من حولنا هي التي تلاعبنا، كيف؟ كنا نطيل التأمل فيما حولنا، فلا “سبيس تون ولا الأتاري” تشغلنا ببهيج برامجها، فكنا نجد وقتا من خلال البصر أن نعقد المشابهات: هذا يشبه كذا وهذا كذا، فيقول طفل آخر بل يشبه كذا، فنتنازع ونشتبك بالكلمات، ونكتشف معا أن كلامنا جميعه محتمل، ومقبول لأن هذا يشبه كذا وهو يشبه كذا أيضا..
بدايات اكتشاف الأطفال للبلاغة، والرسم لكن لا معلما يوظف لعبنا واختلافنا وتشابهنا..!
ننتهي من الشعر والرسم، فنجرّب التمثيل ولم لا نفعل والوقت ملكنا ونحن أحرار به؛ وكانت الطبيعة هي المعين وهي التي تلاعبنا كأننا أطفالها، أو كانت تكافئنا لأننا نحبها ونمنحها الوقت على غير عادة الكبار المشغولين بالعمل بحجة إطعامنا.. كانت أزهار الحرفيش بلونها “البيتنجاني” تأسرنا فنلاحظ شكل الزهرة، ولم نكن نتعب في إيجاد مشابهها، إنها فرشاة حلاقة…. فتدب الحيوية في أيدينا؟ يلتقط كل منا زهرة ثم يقشّرها نازعا عنها شوكها، ثم يبدأ بحلاقة ذقنه الذي لم يغزه الشعر بعد، فتكون النتيجة، حيث خدودنا غضة طرية، أن يظهر الحب عليها، فتعنفنا الأمهات قائلات: ألم نقل لكم لا تضعوا زهر الحرفيش على خدودكم!
وفي نفوسهن لا بدّ أنهن كنا يضحكن من الرجال الصغار الذي يريدون مغادرة طفولتهم إلى عالم الكبار!
كنا نعود من غزواتنا وقد تعلمنا دون أن نقصد التعلم، فلا جناح ولا ضير إن عنفتنا أمهاتنا أو أصابتنا شوكة أو التهاب خفيف، أو أن نضل ونأكل نباتات وأزهار مرة الطعم لم نكن نكتشفها من قبل!
لن أستطيع وحدي تنظيف المكان، فلا بدّ أن يتعاون القرويون؛ لأن هذه البلد لهم جميعا وليست بلدي وحدي!
حكمة العيش على هذه الأرض: التضامن والعيش معا رغم ما أختلف فيه مع زملائي الفلاحين!
كل فصل له حلاوته، وكل عمر.. فلا حسرة على أيام الطفولة إن صرنا شبابا، ولا حسرة على أيام الشباب إن صرنا كهولا؛ فكيف سنقطف حكمة الحياة إذن؟
لذة الفم للطفل في طعامه حتى ولو كان أعشابا، ولذة الحب للشاب حتى ولو قبّل صورة، ولذة العقل للشيخ حين يستمتع بحل مشكلة بكلمات بسيطة تكون كالسحر!
وكل ظرف وله أزهاره حتى لو كان الطقس حارا!
وسأتأمل فقط زهرا بريا صيفيا وحيدا:
صحيح أن الحرفيش كان يتعرض لغزواتنا الطفولية، ولم يكن يهتم به الكبار ربما لشوكه، إلا أنه زهرة عظيمة تعيش شهورا عديدة من أول الربيع إلى ما قبل الشتاء، أي أنه يعيش الربيع والصيف والخريف!
الحرفيش يقاوم عوامل المناخ، فهو يحتمل الغبار والخماسين والرياح، وهو يصر على الإزهار حتى في ندرة الماء وذلك لقدرته العجيبة في امتصاص ما يستطيع من رطوبة قليلة..
كل فرع لها كأنه يد تغري بالسلام، لكن أصابع يدها مدببة..لذلك إن أردت السلام معها عليك ألا تقتلعها.
حين كنا صغارا كنا نأكل سيقانه قبل أن يكبر ويصبح”عاسيا” أي صلبا..
أين أزهار صيفي الطويل؟ وهل من رمز هنا أو هناك؟
لو تعارك الأخوة مع نبات الصبر، وصعدوا الجبال بحثا عن الأعشاش، ولو حلقوا ذقونهم بفرشاة الحرفيش وشربوا قطرات الماء من الينابيع التي تقترب من الجفاف، لعرفوا قيمة اللعب والحرب والماء والإنسانية والوفاء للأخوة.
فكيف يعترك أصحاب المكان الواحد المزين بكل هذه الخصوبة اللونية والسمعية؟ هذا ما يظل يؤرقني ويلسعني ويلطني ويوجعني بسوطه وصوته!
ولا خبر عاجل سيثيرني، وسأردد حزينا رغم الأمل مع ما أنشد يوما:
يا نفس أجملي صبرا إن ما تحذرين منه وقع!
وسأطلب من زهرة حرفيش أن تظل على عهدها تمنحني أنا ومن أحب: الأمل بالحياة رغم قلة الماء..
هذا ما أطمح إلى أن يركز عليه المصورون بالكاميرا والقلم، وهذا ما أحاول أن أقوم به، فهل حاولت؟